أكد الشاعر ياسر حجازي أن تسييس الشعر عمل مُضنٍ عادة ولا يُفضي ولا يصبّ في نهر الشعر. منذ عقدين من الزمن كان ولا يزال ياسر يشاغب السرد ويداعب الشعر ولذلك كان عليه أن يقدم تجربته بما يمثّله هو ولا يستحدث ما لا يؤدي إلى لحظة إبداعية توقظ القارئ وتلاطفه. ويرى حجازي في حوار مع «الحياة» أن الانفجار الروائي في السعودية لا يمكن إلاّ أن يكون مؤشراً إيجابياً «سيؤتي أكله» ولو بعد حين. هنا تفاصيل الحوار: دعني أسألك أولاً عن ديوانك الأخير «سارد الغوايات» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لماذا حضر أصدقاؤك وأقاربك وبعض المشاهير بأسمائهم الصريحة في ثنايا بعض النصوص وما المبرر في ذلك؟ - «اسمُكَ عِصْمَتُكَ الأبدية من تيهٍ مُحْتَمَلٍ» لعلّكَ لاحظت أنَّ ثمة غواية في الديوان بعنوان غواية الاسم؛ الاسم ذاته غواية، وهو عندي حاوي الحياة ومهيمن عليها. وهل ثمّة حياة دون أسماء لشخوص وأماكن، وهذا ما عبّر عنه السارد، إذ طاف على العديد من أسماء الأماكن، إضافة لأسماء ملكت في القلب جُلّ أوقاته، وشهدت معه حقبة كبيرة من عمره، وكانت شاهدة على بعض أو معظم تلك الغوايات. ورودُ تلك الأسماء في السارد ليس وفاءً لها أو حُبّاً –على رغم وجود الحبّ والوفاء- لكنّها أسماء شاهدة على السيرة، حضرت لتضفي لمسة واقعية في القصيدة/السيرة. قد أردّ السؤال بسؤال مُضاد، ما الذي يمنع ورود تلك الأسماء، لطالما هي حاضرة ومشاركة في السيرة التي أراد الحبر أن يدونها شعراً؟ إنّ الشعر العربي مليء بالشواهد -قديماً وحديثاً- يذكر فيها أسماء الأماكن والشخوص، ولست هاهنا أبحث عن تبريرٍ، لكن الإشارة كانت من باب العلم بالشيء. ولماذا استخدمت تفعيلة واحدة «فعلن» في هذه المجموعة دون غيرها، وهل ترى أنّ بعض الشعراء يحترف الكتابة على تفعيلة مُعينة، ويهمل بقية التفعيلات أم أن الأمر متروك للحالة الشعرية المباغتة؟ - لعلّني حينما بدأت كتابة القصيدة لم أكن أتوقّع أنّها ستغدو ديواناً، وأني سأستمرّ في كتابتها لأكثر من عامين. الديوان ليس مجموعة قصائد بل قصيدة واحدة، بدأتْ بتفعيلة معيّنة فرضت نفسها في البدء، ثمّ استمرّ الحال حتّى نهاية الديوان، ثُمّ أنها تفعيلة عذبة تناسب السرد في كثير من الوجوه. هل التأمل في الكون شعيرة يمارسها الشعراء في استجلاب الالهام وصناعة نص شعري مغاير؟ -لا أزعم معرفة ما يقوم به الشعراء استحضاراً للشعر، لكنّي لست أظنّ أنّ الكون بمفهومه الفيزيائيّ كان مُلهماً لهم، اللهم إلاّ من باب الأسئلة التي تتعلّق بالإنسان ومصيره. في تفاصيل الحياة ما يحرّض الشعراء؛ تناقضاتها، أسئلتها المعضلة، ما برحت تؤرّق الفلاسفة والشعراء منذ بدء الوعي؛ الموت، الفقر، المرض، العجز، الظلم، العدل، الحبّ -لا بمفهومه الإقصائي القائم على علاقة بين اثنين وانتهى الأمر- بل يتعدّاه إلى علاقات بكل محيطكِ، بكل ما هو جميل وعادل، ذلك أنّك لست منفصلاً عنهم، وأنّ مفهوم السعادة لديك مرتبط بهم أيضاً؛ كما أنّ القصيدة الحديثة قد أدخلت المهمّش، والعاديّ البسيط، وتلقّفت جزئيات صغيرة لم يمرّ عليها الشعر القديم، كُلّ تلك المفاهيم الحياتية الإنسانية هي مُحَرّضٌ للشعر والنثر، ولكل أشكال الفنون. ما الذي يمكن أن يفعله شاعر الفصحى في استعادة القراء إلى استعذاب الشعر؟ وهل عليه أن يسهم في رفع ذائقة المتلقي؟ -إنّ هذا الهمّ - بزعمي- وَهْم قَدْ يُثقل كاهل الشعر، فكيف بكاهل الشاعر! إنّ تسيس الشعر عمل مُضن، عادة لا يُفضي ولا يصبّ في نهر الشعر الخالد. للشاعر غاياته التي ينطلق منها، وبعضها مجهول وغامض عنه. أمَّا ذائقة المتلقي فتلك وعي جماعي مرتبط بالإعلام، التعليم، العائلة؛ ثُمّ على افتراض صوابية مسألة تدنّي ذائقة المتلقي أو الشكّ بها، فإنّها مسألة تخصّ القراءة بصفة عامّة، وليس حصراً على الشعر، الذي ما زال يحظى بحظٍّ وفير، على رغم تدنَي مستويات القراءة في مجتمعاتنا. ليس على الشاعر أن يكون شحّاذاً يسأل الناس قراءة أو استماعاً، الشاعر نَهر من الصور، اللغة، أسئلة مشرعة على الآفاق، فمن شاء أن يغرف من هذا النهر فليكن. أنت تكتب القصة وتكتب الشعر فكيف تجد العلاقة بينهما، وهل على الكاتب أن يُجرّب مختلف الفنون الأدبية أم عليه أن يبقى مُخلصاً للفن الذي يستهويه؟ - ليس على الكاتب أن يقف ضدّ رغباته في التجريب، تحت حجّة عدم ممارسته لهذا النوع من الأدب، الأشكال الأدبية تتأثّر وتؤثّر في ما بينها، وأزعم أنّ الأثر إيجابي، لطالما ثمّة حرفية عند الكاتب في حسن استغلال ذاك التقاطع بين أشكال الكتابة، وإنّك لن تغلب في الاستدلال على ذلك، في متون التراث أو بين أدباء العصر الحديث، والمعاصرين. المعرّي مثلاً: ناثراً، شاعراً، فيلسوفاً، ناقداً، لغوياً، طرقَ أشكالاً متقدّمة لم يتجرّأ على عتباتها حتّى أدباء اليوم. فكرة الرهبنة لشكل أدبي من دون غيره -تحت حجّة الإخلاص- هي فكرة رومانسية تبتعد كثيراً عن الواقع. كيف يمكن أن تصف العلاقة بينك وبين شقيقتك علا حجازي والتي تحترف الفن التشكيلي وهل يمارس الأشقاء المشورة الأدبية في رأيك؟ - يحدث أن نتشاور كثيراً، وبخاصّة قبل ظهور النتاج التشكيلي أو الأدبي، قبل معارضها مثلاً، أو قبل صدور كتاب لي، ويكون معنا أختي الثانية المصمّمة نهلا التي تولّت تصاميم إصداراتي مستعينة بلوحات علا، وتصاميم بروشورات معارضها، فأبدعت بإظهارها بحلّة مميزة. هكذا أجواء عائلية مليئة بالثقافة والفن لا شكّ تعتبر مكسباً لكلانا، إذ يتمّ مراجعة العمل من وجهات نظر مختلفة، وعادة ما نخرج بملاحظات ما كان يمكن لعين واحدة أن تراها. كيف تقرأ الانفجار الروائي والذي شهده المشهد الثقافي السعودي أخيراً، وهل هو مؤشر إيجابي في رأيك؟ -أرى المؤرّخ والروائي يلجآن إلى حرفة التزوير في الكتابة، الأوّل يكتب بصورة ترضي المؤسسة وغاياتها الإقصائية والغلبة له في ذيوع ادعاء الحقيقة، والآخر يكتب لينتصر على الواقع، ويختلق تاريخاً يتماهى معه والغلبة له جمالياً وإبداعياً. ديدن التاريخ أنّه لا ينصف الجميع، ولطالما لدينا في السعودية ميزة التعدّد العرقي والتنوّع التاريخي والثقافي -ومع اتساع هامش الحريّة- فإنّ الرواية عبّرت عن آمال الكثيرين في تدوين حكاياتهم، تواريخهم، سيرهم، أحلامهم وأمانيهم.حينما تتحوّل أنظار القرّاء العرب إلى روايات الروائيين السعوديين-بعيداً عن الحيثيات التي قد يعلّلها بعض النقّاد- فنحن أمام ظاهرة لا يمكن نعتها إلا بالإيجابية.