منذ بداية الخمسينات دشنت بغداد حقبة جديدة في رحلة العذاب والبناء والموت. وكانت نهضتها مغمسة بمعارك الشوارع والشعر الحديث الصاعد والنهضة العمرانية الباسقة. وفي تلك الفترة اكتنز لحمها الكوسموبوليتي وازدهر قلبها العروبي النابض وتألق عقلها الاسلامي المعتدل. ولم يبق من بغداد الحنابلة والشطار والعيارين حنبلي واحد. حتى الفتوة البغدادية العريقة دجنها الشارع السياسي وأصبحت جزءاً من تقاليده الديموقراطية الشابة. لكن الأمور تغيرت فجأة في منتصف تلك الفترة الانتقالية العسيرة. بدأ الصراع السياسي يأخذ مسارات ملتوية واخترقت الطاقم السياسي الحاكم شريحة جديدة من الشباب المصمم على التغيير. وكان النفط هو العتلة المركزية في هذه المعركة القاسية. كان الجنوب العراقي نموذجاً لمخزن «المواد المشتعلة» ويغلي بالحاجات المباشرة لملايين الفقراء الذين يعيشون حالات مزرية تحت وطأة الذل والموت البطيء. واقترحت الادارة الحكومية وبالتفاهم مع الشركات البترولية مشروعاً ضخماً لتغيير المنطقة جوهرياً وضمن خطة جبارة مكتملة التفاصيل. إن تجفيف مناطق شاسعة من الأهوار أصبح ضرورياً للاستفادة من آلاف المعدمين والباحثين عن العمل ولكي أيضاً يتحقق تخفيض كلفة الاستخراج النفطي المتزايد والتعديل الجديد للاتفاقات المالية التي طرحتها الحكومة مع الشركات النفطية. فشل المشروع كلياً. واتجهت الأيدي العاملة إلى الهجرة العشوائية إلى مناطق عديدة من البلاد وإلى بغداد تحديداً. كانت بغداد في حاجة إلى هذه الهجرة الملتبسة. ففي قلب نموها الجديد كانت تفتقر إلى «التهميش» الاجتماعي المتصل بها وتعاني من ندرة «الفاقة» الحادة في تراتبيتها الاجتماعية المكتظة. استقبلت بغداد هؤلاء من دون حذر ولا تخطيط. ولم يتحدث حزب سياسي عنها ولم تنل حظوة مباشرة من علماء الاجتماع أو مديري التخطيط. وبمرور الزمن تحول القسم الأعظم منهم إلى «جيش احتياطي» للعمالة من جانب وإلى «جيش احتياطي» للسياسة والأمن المسلح في الجانب الآخر. وبات تظافر هذه العوامل من جوهريات التطور اللاهث ومن أجل حراسة الانجازات الاجتماعية والسياسية الحديثة. فالبنايات تشهق في السماء وجسور جديدة تشيد في قلب بغداد وأحزاب تنمو تحت الأرض. بيد أن التحولات الحادة التي نشأت بعد أن تسلمت البونابرتية العسكرية في 1958 السلطة في بغداد جعلت من هذه «الجيوش الاحتياطية» أنماطاً كريهة من الشرائح الاجتماعية المفوتة والجاهزة لخدمات كل من يساهم في ازدهار حالتها الموقتة ومن دون تحقيق تغيرات جذرية عميقة في اصطفافها الاجتماعي أو في وعيها السياسي أو انحيازاتها الحزبية الضيقة. وأصبحت هذه «المونوبروليتاريا» رأس حربة دموية بيد السلطة السياسية المسلحة في الحكومة أو رهينة للميليشيات العسكرية في قبضة الأحزاب الراديكالية في الشارع الملتهب بالنزعات البدائية في القتال السياسي والانتقام الحزبي الرث. وشهدت بغداد فصولاً دموية من انتهاكات «المقاومة الشعبية» وجرائم «الحرس القومي» واجتياحات «الجيش الشعبي» وفدائيي صدام وأزلامه. وبعد الاحتلال تحولت الغالبية العظمى من هذه «المونوبروليتاريا» إلى قواعد مسلحة للمنغولية المذهبية وباقي الميليشيات الطوائفية ومنها شراذم «القاعدة» وقوات الوزير الأول «الخاصة». ويمكن القول وبالتسجيلات الأرشيفية المهمة والمدونات الأخبارية الموثقة أن بداية حكم حزب الدعوة الفاشي الطوائفي في 2006 كان الذروة في عملية الاستباحة الشاملة لبغداد والامعان في تغيير طابعها الديموغرافي المتوازن تاريخياً. وكانت الخطة التي وضعها ديفيد بيترايوس والتي عرفت ب «الاندفاعة» هي جوهر التطهيرات السياسية الجديدة والمترافقة بالتهجير الطوائفي العريض وبالقتل العشوائي المذهبي والانتقام العرقي الدموي. ويتباهى الوزير الأول بأنه حقق الأمن والاستقرار في بغداد على جثث الآلاف من أبناء حاراتها الجميلة وفي ظل تقسيمها البشع وبناء مئات الأسوار والجدران الكونكريتية المسلحة. ولا نريد الخوض في الأرقام الجديدة للتوزع السكاني في بغداد بعد «الاندفاعة» البغيضة وعقابيل مذابحها المروعة. فالهيئات الدولية تعرف ذلك بالتفصيل والمعاهد الاكاديمية «الاميركية بالذات» قد درست ذلك بالجداول المروعة. في كتابته السريعة عن بغداد «الجديدة» هذه أشار سعد اسكندر، المسؤول المباشر في الحفاظ على الأرشيف «الوطني» في بغداد، الى أن جهود الحكومة المبذولة في تحقيق التكوين الجديد ورعايته في بغداد هو جزء متمم لجهودها في السيطرة المركزية على العاصمة. من يغير التكوين الداخلي للمدينة يحق له استلام السلطة السياسية والقتال حتى الرمق الأخير من أجل ذلك. وهذا ما يحدث فعلاً الآن في بغداد. إن حكومة حزب الدعوة تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت سنابك نتائج الانتخابات الأخيرة ووطأة أرقامها المباغتة لتخطيطات الميليشيات الطوائفية وأحزابها العميلة للكوندومينيوم الاميركي الايراني. ولذلك رجع الموت في الشارع مرة ثانية وتصاعدت الاغتيالات بالأسلحة الكاتمة للصوت وانتشرت الفرق الحكومية «الخاصة» في المداهمات العشوائية والمخططة في الاعتقالات الكيفية والقتل المنهجي المنظم. وترافق ذلك كله مع الصراخ الاعلامي الرسمي بالتهديدات العلنية في اللجوء إلى كل أنواع القوة للحفاظ على الأمن والاستقرار وحراسة «العملية السياسية» وآلياتها الحزبية والحكومية. بيد أن الأرقام الانتخابية والقسم الأساسي منها المرتبط مع قاعدة بيانات «المفوضية العليا للانتخابات» وبعضها نتاج جهود خاصة لبعض المنظمات التي واكبت الانتخابات وراقبت مساراتها أو حصيلة تدقيقات شخصية معينة بذلها بعض المتحمسين للتجربة العراقية والمتعاطفين عموماً مع الحالة المزرية للناس، كلها تؤكد أن بغداد «الاندفاعة» قد تراجعت عن حالتها الطوائفية التي رسمت لها وأنها خذلت الحكومة وحزبها الميليشيوي المذهبي البغيض. وهذه الأرقام تؤكد أن الخطة «الطوائفية» للحكومة العميلة للاحتلالين الاميركي والايراني قد فشلت مبدئياً وأن بغداد قادرة على النمو المتسارع في اتجاه تغيير حالتها نحو الأفضل في استعادة هويتها العلمانية المعروفة وتوقها التاريخي في الحفاظ على توازن حضاري دقيق بين كوسموبوليتية معتدلة ومنفتحة وعروبة ديموقراطية عميقة. وعلى عكس بعض التحليلات الساذجة، فالأرقام تشير إلى أن بغداد ترفض «التقسيم» القسري الذي تبغيه الحكومة الطوائفية وتعاند من أجل الاندماج والتوحيد. وهي إذ تنفض عن كاهلها غبار الطوائفية والعرقية والانحيازات القهرية الفكرية المتآكلة تثبت من جديد أنها مدينة الوطن القادرة على الخلق والبناء. وانها جاهزة دوماً للتخلي عن «الغرباء» في الفكر والسياسة والاجتماع والدين. وانها لن تتفق مع الظالم وإن استند على الاجنبي ولن تتمثل مع الظلم وإن ادعى انه من صلب التاريخ. بغداد الآن على مفترق الجغرافيا والزمن التاريخي القادم. وهي مثابة القوة في التغيير والقادرة على التشبث بقوانين الأرض والمتمردة على حسابات الآخرين الهجينة. والمهمة الآن شاقة لكي يلتفت الجميع ويساعد بغداد التي خذلت الطغيان والأوهام. ويمنع عنها المنغولية السياسية والمسلحة ويفتح الطريق أمامها للنمو والازدهار من جديد. ولن تكون بغداد ك «المرأة الحامل» حملت فلما أتمت أقلصت، ومات قيمها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها! * سياسي وكاتب عراقي.