يكتب القصيدة التي عرفته للقارئ، ولا يخفي أن بيته الأول هو الشعر متدفقاً إليه بالوفاء كتابة وحضوراً في المشهد الشعري السعودي. إنه صاحب المجموعة الشعرية اليتيمة «حافة أنثى» حبيب محمود، ويقدم اليوم مثالاً آخر على الشاعر الذي يقتحم جنساً أدبياً آخر غير القصيدة التي تشغله وتكرس هاجسه لها وحدها. حبيب هذه المرة يتنحى عن دور الصحافي المتعدد إلى لغة تحكمها بدعة السرد واشتراطاته، لغة تأسره هذه المرة إلى الحكاية وعذوبة الشخوص ونسج ملامحها عبر تاريخ مفصلي في المنطقة وفي محيط الخليج والقطيف تحديداً. لم تكن الجغرافيا خارج عناصر الشاعر وهو يكتب روايته الأولى «زَمْبَوْهْ»، فأتى الريف حصناً وارفاً بالحكاية والزمن الحميمي، فلأجل هذا النص الذي يعد أكثر رحابة وأقل رمزية يتمناه حبيب في كتابة مغايرة وعارفة بقدراته، بحث عن ضالته الموغلة في الذاكرة الشعبية، إنها شخصية لها خصوصيتها ذات الدلالة المباشرة في الذهنية المحلية على امتداد ساحل الخليج العربي، وكان له أن يصونها في نص يحتمل أدوات لا يعرفها سرب الشعر والقصيدة، فأطلق حبيسته لسنوات في عمل روائي صدر أخيراً، وكان ل «الحياة» الوقوف على هذه التجربة الجديدة لحبيب الذي عرّف أولاً عمله «زَمْبَوْهْ» بأنه يرصد تفصيلات هامشية لا يتخطى زمنها حاجز يوم من حياة شاب مراهق يعيش في قرية ريفية من قرى ساحل الخليج العربي. وكشف أن هذه الرواية تعتني عناية خاصة ب «حكاية» مُتداولة في القرية حول مأساة فتاة اسمها «زينب» يتتبع الراوي شخصها عبر التقاط مفردات من الواقع الاجتماعي الذي كان يحكم الحياة الريفية في مطلع أربعينات القرن الماضي، ملمّحاً إلى ما كانت تكتنفه تلك الحقبة الزمنية من أنساق آيديولوجية وميثولوجية واقتصادية واجتماعية. وبحسب تصوره يرى المؤلف أن العمل يثير أربعة مستويات من الصراعات الاجتماعية في مرحلة ما قبل ظهور آثار النفط الاقتصادية، ومن خلال سرد حركة البطل «حسين» في يوم ريفيّ نمطيّ، موضحاً أن وجود «زمْبَوْه، زينب» في الرواية هو «وجود حكائي محصور في ما يُتداول بين الناس في القرية، وفي ما يتأمله البطل أثناء يومه. ومع أنها هي محور تفكير الشاب وتأمّلاته، بل مع أنها هي محور الرواية بشكل عام.. فإنه ليس لها أيّ وجود فعلي كبطلة. أو لنقل إنها بطلة مُضمرة، ولا تظهر إلا في الحكايات والتأملات». وعن تجربة كتابة رواية ولما يلزم مع هذا الجنس من سرد وقدرة على نسج الحكايات في تقاطعات بنائية للعمل الروائي لا يتماس مع شكل القصيدة وكتابتها، وكيف استطاع أن ينجز محاولته الأولى وهو الشاعر قال: «كتبتُ الرواية لأنني أردتُ وعاءً أدبياً أكثر اتساعاً من الشعر. أردتُ وعاءً يقول أكثر مما يقول الشعر. يصرخُ بصراحة، ويُسمّي الأمور بأسمائها حين تقتضي الضرورة التعبيرية والفنية»، كاشفاً أنه سبق له كتابة القصة القصيرة، ونشرتُ بعضها في بداية التسعينات، ولكن «زَمْبَوْه» تُلاحقه طويلاً، حتى أواخر 1999 حين بدأ بكتابة قصته وأنهاها في 2008، إلى أن وجد الناشر «طوى للثقافة والنشر والإعلام» الذي نشر الرواية أخيراً، ورفض أن يكون متأثراً بموجة الرواية التي تتصدر المشهد وعلّق يقول: «إذا كنتُ متأثراً بموضة الرواية، فإنني أؤمن بأن للمتلقي الحق المطلق في أن يحكم على زَمْبَوْهْ بما يراه»، مؤكداً أن دوره يقتصر على الكتابة والنشر، أما دور القارئ فيتوقف عند أحد الخيارين إما القبول أو الرفض. العنوان «زَمْبَوْه».. المعنى في الذاكرة الشعبية وضّح الروائي حبيب أن عنوان روايته له دلالة تدليل أو تشويه لاسم «زينب»، ففي منطقة الخليج اعتاد الناس - سابقاً - على تدليل - أو احتقار - الأشخاص بإدخال تغييرات على أسمائهم، فمثلاً حسن: حَسَنَوه أو حِسْنَوهْ، شاكر: شاكروه، حبيب: حبيبوهْ. ليلىْ: ليلَوهْ، مُنى: منَوْهْ. أما زينب، بحسب إيضاحه، فإنهم يدللونها - أو يحتقرونها - ب: زَينَبَوْه، زنّابَوْه، زنْبَوْه، أو زمْبَوْهْ. ويعيد حبيب ذلك إلى «لكنة التقطها السكان من البرتغاليين حين احتلّوا منطقة الخليج»، وفي الرواية مقطع يشرح ذلك في سياق السرد، ونص المقطع: «انقطع تحاوره الصامت بصرخة نداء: - زنْبَوْهْ.. زنْبَوْهْ..! رفع رأسه.. كانت أمّه تناديْ شقيقته في غضب. عاد إلى وسادته وصوت والدته ما يزال يرنّ في رأسه زنْبَوْهْ.. زنْبَوْهْ..! .. زنْبَوْهْ.. حِسْنوْهْ.. عبّاسوهْ.. ريموه.. زهرَوهْ.. حين تمرّ الأسماء من حنجرة الغضب؛ يُعاد بناؤها وتلتقط واواً وهاءً في ذيلها. زينب زنْبَوْهْ أو زينبوهْ.. حسن حسَنَوْه أو حِسْنوْهْ.. مريم مريمَوْهْ أو ريمَوْه..! الأطفال، وحدهم، هم الذين تتكسّر أسماؤهم وتُذيّل من دون غضب. يُستثنى منهم المحاطون بدلالٍ. وهو لا يتذكّر أن أحداً ناداه حسينوه أو حِسْنوْهْ من دون أن تدخُل أمّه في مناوشة، أو شبه معركة. إنه المدلّل الوحيد في البيت، ليس لأنه بكر والديه فحسب؛ بل لأنه وُلد بعد تسع سنوات من الحسرة والانتظار والآمال المتكسّرة..!».