من عيوب الديمقراطية كما هي ممارسة في الدول الغربية في هذا العصر أن الإدارة المنتخبة تحاول دائماً تحاشي اتخاذ القرارات الصعبة خوفاً من الهزيمة الانتخابية وأملاً بإمكان تأجيل الحل حتى يحل محلها إدارة حكومية أخرى يتم انتخابها في المستقبل. واليونان دولة عضو في اتحاد الدول الأوربية. وذلك يعني أنها مضطرة للالتزام بعدم تخطي حداً معيناً من «الدين العام» أو «الدين الوطني» نسبة إلى قيمة كامل الناتج الاقتصادي السنوي العام. وحينما قاربت ديون اليونان العامة الذروة التي من شروط البقاء في الاتحاد الأوربي عدم تخطيها صارت وليمة لذيذة أغرت لصوص شارع المال في نيويورك للاستفادة منها. والذي حصل كما اتضح من الوثائق التي نُشِرتْ مؤخراً، أن «جولدمان ساكس»، وهو من اكبر بنوك «الاستثمار» في نيويورك، بل وفي العالم، أتى الى الحكومة اليونانية وقال لها سنمكنكم من خلق آلية تمكنكم من مزيد من الاقتراض دون أن يؤدي ذلك الى زيادة «دينكم الوطني العام». أي بما معناه حتى وان لم يقولوه - بالطبع - سنخلق لكم آلية تمكنكم من «إخفاء» شيئاً من الديون بحيث لا يسهل على سلطات الاتحاد الأوربي اكتشافها. وما هي الآلية التي تم توظيفها لإخفاء الزيادة في الديون؟ في العادة تقترض الحكومات عن طريق إنشاء سندات مكتوب على متن كل منها مبلغ السند وتاريخ الالتزام بالوفاء بمبلغه. فعلي سبيل المثال يمكن إنشاء العدد المطلوب من السندات التي تعد بدفع ألف دولار- مثلاً- أو يورو (كما في حالة اليونان) لكل منها في يوم معين من شهر معين في سنة معينة في المستقبل الذي قد يتراوح ما بين سنتين الى عشر أو اقل من ذلك أو أكثر وفقاً لتقديرات المقترض وظروفه. ثم تباع في أسواق المال العالمية. والمشتري، والذي دائماً يدفع اقل من المبلغ الموعود بدفعه من المقترض منشئ السند بعد حين، لأنه من المستحيل أن يدفع شخص مبلغ ألف - مثلاً- من عملة معينة الآن ويحصل على نفس المبلغ بعد بضعة سنوات أو حتى بضعة أسابيع. المهم هنا أن كل ما هو مسجل من ديون على اليونان أو غيرها عن طريق إنشاء السندات أو الصكوك وبيعها في أسواق المال محدد ومعروف لمن يهمهم معرفة مبلغه و»تقيمه» شركات تقويم الديون يومياً. أي تحاول شركات التقويم تقدير احتمالية قدرة المقترض المنشئ لهذه السندات أو الصكوك على الوفاء في وقت حلول اجل الدفع. وعندما اقتربت اليونان من الحد الأعلى المسموح لها بوصوله والممنوعة من تجاوزه، وبما انه عليها التزامات كدفع مستحقات المتقاعدين ومرتبات موظفي القطاع العام عموماً، وبما أن جزءً كبيراً من دخل الحكومة يذهب لدفع ديون سابقة، فقد كانت تبحث عن أية وسيلة لخلق سيولة مالية استحال توفيرها عن طريق إنشاء سندات (أو صكوك) إضافية جديدة. هنا أتى سماسرة «جولدمان ساكس» واقترحوا تحويل بعض مصادر دخل الحكومة من الضرائب ورسوم حددها وفد «جولدمان ساكس» وتمنحهم «جولدمان ساكس» آنياً جزء من أو كل مبلغها قبل إتمام تحصيلها، وبذلك تتحاشى اليونان إصدار سندات قروض يؤدي إصدارها الى تخطي الحد الأعلى الذي لا تسمح أنظمة الاتحاد الأوروبي بتخطيه. وفي الوقت ذاته تحقق «جولدمان ساكس» دخلاً مجزياً لأن الحكومة اليونانية ستحول لها مبالغ الضرائب والرسوم التي تم تحديدها والتي لابد أن يكون مبلغها أكثر من المبلغ الذي أقرضته «جولدمان ساكس» لليونان قبل تحصيل المبالغ التي ألتزمت بدفعها ل «ساكس» بمجرد أن يتم تحصيلها. ومن الواضح أن ديون اليونان الحقيقية زادت في واقع الأمر، وقاربت الحد الذي لا يمكن الاقتراض بعد بلوغه. وكل الذي حصل انه تم إخفائها الى حين. وعندما عجزت اليونان عن الوفاء بديون سابقة في وقت حلول آجالها، انكشفت الديون التي تم إخفائها، وانخفضت تقديرات احتمال الوفاء بالديون كاملة مما أدى الى انخفاض قيمة السندات اليونانية، وهذا معناه زيادة تكاليف الاقتراض حتى شبه انعدمت قدرة اليونان على الاقتراض، مما أدى الى خلق أزمة سيولة حكومية خانقة. وبقية القصة يتم تداولها يومياً في نشرات الأخبار. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد. ف «جولدمان ساكس» الذي هندس إخفاء جزءً من ديون اليونان حتى تبقى ديون اليونان العامة تحت «رادارات» سلطات الاتحاد الأوربي وغيرهم، كانت بالطبع تعلم أن أثمان (قيمة) السندات الحكومية اليونانية ستنخفض، اشترت تأميناً على تلك السندات عن طريق المراهنة عليها. كأن تقول للمؤمن – أي من تشتري منه التأمين – إذا انخفضت قيمة السندات اليونانية الى مستوى يتم تحديده في العقد، يحصل «ساكس» على قيمة الرهن أو التعويض المتعاقد على دفعه. نعم يعرف «جولدمان ساكس» وربما غيره أن أثمان السندات اليونانية ستنخفض، وفي الوقت ذاته يراهنون على انخفاضها وبذلك يزيدونها انخفاضاً. وكلما زادت نسبة الانخفاض زادت قيمة التعويضات. تماماً، وكما قالت المستشارة الألمانية، كمن يشتري تأميناً على بيته ثم يحرقه ليحصل على مبلغ التأمين. وسيتم مزيداً من الإيضاح في مناسبة آتية إن شاء الله. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي