لا يولي أبو عبدالله، نظرات «الاستنكار» لمهنته، اهتماماً كبيراً، حتى لو صدرت من أقرب الناس إليه، وهي زوجته، فهو يرى أن قيامه بتغسيل الموتى وتكفينهم «واجباً شرعياً واجتماعياً». ويعمل هذا الخمسيني في هذا المجال منذ أكثر من عقدين. وهو يشعر بالفرح لأن السنوات الأخيرة بدأت تشهد «تحولاً» في تقبل المجتمع لهذه المهنة. ومن الشواهد على هذا التحول التي يشير إليها أبو عبدالله، هو «الإقبال من بعض الشباب على العمل فيها». ويقول: «أعمل في التغسيل والتكفين والدفن أعوامًا طويلة. وفي الأعوام السابقة كان هناك عزوف من الشبان، إلا أنه قبل عامين، حضر ثلاثة شبان، في العشرين من أعمارهم، يرغبون في أن أدربهم على هذه المهنة. وقد استغربت طلبهم، فالمرحلة العمرية المطلوبة للدخول في هذا المجال هي 35 سنة وأكبر، وهم أصغر من ذلك بكثير، ألا أنهم أكدوا أن رغبتهم في الثواب أكبر من الخوف الذي يصابون به لأول مرة. وهم يقومون بمساعدتي الآن». ويؤكد أبو عبدالله، أنه لم يصب بأي خوف أو رهبة عند أول مرة قام فيها بغسل وتكفين ميت، إلا أنه يستدرك «ما يحز في نفسي؛ مُشاهدة نساء، وهن ينظرن إلى عزيز عليهم وقد مات، وهن ملتفات حوله. وأكثر ما يؤلمني هو منظر أطفال صغار في حال غسلهم وتكفينهم، فبعضهم يكون باسم الثغر، وكأنه يغط في نوم عميق، وهذا ما يجعل صورتهم تلازم مخيلتي لفترة من الزمن». وحين يعود أبو عبدالله إلى منزله، يجد نظرة «استنكار» في عيني زوجته، التي لا تتقبل عمل زوجها في هذا المجال. ويقول: «تسألني دائماً: لماذا هذه الوظيفة بالتحديد؟ فأجيبها بأنني على استعداد نفسي لدخول هذا المجال، إلا أنها تؤكد بأن البعض يصاب بالذعر لمجرد أن يعرف أن من صافحه قبل قليل، يغسل الأموات ويكفنهم أو يحفر القبور»، مضيفاً «أرى الاحترام والتقدير في مجتمعي». وفي الجانب النسائي، تقول أم محمد (46 سنة)، التي بدأت في هذا العمل قبل 12 عاماًَ: «كنت حينها صغيرة في السن. واستنكر علي الكثيرين دخولي في هذا المجال. فمن المتعارف عليه أن تكون من تغسل الأموات سيدة كبيرة في السن»، مشيرة إلى أنها تلمس «نظرات استنكار من قبل بعض السيدات، فهن يرفضن حتى تناول فنجان قهوة من يدي. والبعض الآخر يقابلني بكل احترام وتقدير». وتضيف «لم يكن هناك رفض أو استنكار من قبل أسرتي». ولم تكن لدى أم محمد، رغبة حقيقة في دخول هذا المجال مسبقاً، إلا أن «الحاجة جعلتني أقدم على ذلك، مع أنني كنت رقيقة القلب، وتذرف عيني الدموع لأي مصيبة. إلا أن رؤية الأموات بعيني غيرت طبيعتي الداخلية، فأصبحت أقوى في مواجهة الشدائد». وتستغرب همسات البعض حال رؤيتها ومعرفة أنها تقوم بغسل وتكفين الأموات، «لا يظهر عليها أنها تُغسل أموات». وتقول: «كيف يريدون أن يكون شكل من يقوم بهذا العمل، فهل يتوقعون أن يكون شكلهم مخيف، حاد الملامح والنظرات؟». وتشير إلى أن وظيفتها الحكومية، «ليس لها دوام رسمي، لا بد أن التزم فيه، إلا إنه يتم استدعائي في أي وقت للتوجه للمقبرة، وغسل وتكفين المتوفاة، وهذا يعتبر خارج الدوام حين نتوجه للعمل ليلاً أو فجراً، إلا إنه ومنذ ثلاث سنوات لم يتم احتساب الإضافي لنا، وقمنا بمخاطبة البلدية، فهي الجهة المختصة، فأكدوا أن المعاملة رفعت إلى الوزارة في الرياض، للنظر فيها». وتشير إلى أن سيدة واحدة «لا تستطيع القيام في المهمة، لذا لا بد من وجود مساعدات، ففي حال الوفاة يصبح جسم الإنسان ثقيلاً». وأكثر موقف سبب لها الهلع والرعب حين تلقت اتصالاً يفيد بأنها قد تشارك في غسل المتوفيات في حريق القديح قبل نحو 14 عاماً. وتقول: «كنت أفكر طوال الليل في حال اللاتي توفين في الحريق، وكيف سأواجه الأمر، إلا أنهم اكتفوا في العدد المتوفر لديهم».