منذ الأزل، وإلى أمد مجهول ستبقى غالبية حقوق المرأة من المحظورات أو المنسيّات في أفضل الأحوال اجتماعياً وقانونياً، وذلك بحكم سيطرة القيم السائدة التي تستمد نسغها من ذهنية ذكورية صاغتها وغالبية التشريعات والقوانين. وتبقى البطاقة العائلية، لا سيما في حالة الحرب التي تعيشها سورية، الأشدّ وطأة على غالبية النساء اللواتي إمّا تحررن من قيود الزواج، أو لم يدخلن قفصه أبداً لظروف خاصة، أو ربما تلك التي ارتضت أن تكون زوجة ثانية منقوصة الحقوق، ذلك أن هذه البطاقة خاصّة بذكور القبيلة فقط. فحين يموت الأبوان «تموت» معهما تاركة من بقي من الأبناء (ذكوراً وإناثاً) ما فوق السن القانونية خارج مظلتها، وكذلك المرأة المطلّقة خصوصاً التي تحتضن أطفالها، بحكم أن تلك البطاقة ملكية خاصة بالرجل الذي غالباً ما يتخذها سيفاً مسلطاً على عنق الأم التي ستحتاجها حكماً، من أجل معاملات خاصة بالأبناء سواء في مجال التعليم أو الصحة أو غيرها. لذا، يستعملها غالبية الأزواج للضغط على الأم ومحاولة إذلالها حين حاجتها لها. غير أن حاجة المرأة إلى هذه البطاقة تشتد وطأتها حين تُقرر الحكومة، ومنذ ما قبل الحرب وحتى يومنا هذا، اعتمادها كمستند أساسي في توزيع مواد مدعومة كالمازوت والغاز المنزلي والسكر. ورفع من حدّة المشكلة أن المساعدات العينية والمالية المُقدّمة سواء من الهيئات الحكومية أو غير الحكومية تعتمد البطاقة العائلية أيضاً، ما حرم نساء كثيرات وأسرهن من حقهم في تلك المساعدات أو المواد المقننة من الحكومة، بما فيها المرأة الأرملة التي نزحت من المناطق الساخنة لا تلي على شيء سوى أملها بالهروب والنجاة وأطفالها من الموت متخليّة حتى عن الوثائق الرسمية، أو تلك الأُسر التي دُمّرت بيوتها بالكامل فضاع أو نُهب كل شيء. إن في اعتماد هذه البطاقة ضياع مؤكّد لحقوق شرائح النساء المذكورة أعلاه، لعدم مراعاة الوضع الاجتماعي والمادي لهن، لا سيما في ظل انفلات الأسواق من عقالها وتحليق أسعار المستلزمات الحياتية إلى مستويات خرافية لم يعد الرجال قادرين على تحمّل أعبائها، فكيف بنساء يحملن منفردات مسؤولية أطفال وحرب لم تبقِ ولم تذر، خصوصاً أن الأب غالباً ما يتخلّى عن مسؤولياته تجاه أبنائه مادياً ومعنوياً بلا أدنى محاسبة، لأن القوانين تحميه ولا تفرض عليه نفقة إلاّ بمقدار ما يسمح به وضعه المادي (وهنا يتم التلاعب). فلا تأخذ المرأة من نفقة أولادها إلاّ ما يجود به الزوج من فتات لا يكفي سد رمق الأبناء في أفضل الحالات، لتأتي الحكومة في هذه الظروف المريرة فتُضيف عليها أعباء جديدة لا يمكنها تحمّلها بحكم أنها لا تملك بطاقة عائلية، ولا تحمل صفة خاصة بها حتى ولو كان الأولاد معها، وإنما هي الآن مُلحقة بصحيفة (سجل القيد) والدها بعد أن كانت ملحقة بصحيفة الزوج. فها هي أم ماهر (مدرّسة) مطلقة مع ولدين وتقيم في منزل يرتفع إيجاره مع نهاية كل عقد، إن حصل وتمكّنت من الحصول على مادة المازوت في الشتاء فهو بسعر السوق السوداء، ومثله باقي الأشياء، فقط لأنها لا تملك هذه البطاقة. أمّا هناء الأرملة التي لم تتجاوز ال25 سنة وأم لثلاثة أطفال، فقد نزحت من إحدى قرى ريف دمشق بعد أن قُتل زوجها، ولم تتمكن من العودة إلى هناك. وتعاني كثيراً للحصول على مستحقاتها من المعونات، وإن حصلت عليها فبالواسطة أو مساعدة أهل الخير، ناهيك عن المازوت وسواه، وأيضاً لأنها لا تحمل هذه البطاقة. وهناك نماذج من أبناء كهول لم يتزوجوا وذهبت البطاقة العائلية للدولة بعد وفاة الوالدين. ومنهم سناء التي تجاوزت ال70، لا يكاد راتبها الضئيل يؤمّن الدواء والقليل من ضروريات البقاء على قيد الحياة. ولا يمكنها في أي حال الحصول على مازوت للتدفئة ولا حتى من السوق السوداء، ما يكبّدها أدوية إضافية نتيجة البرد. فإلى متى ستبقى المرأة سواء أكانت معيلة لنفسها أم لأطفالها ناقصة الأهلية ولا تعتبر مع باقي الشرائح أُسراً لها من الحقوق مثلما لغيرها؟ أم أنه محكوم على هؤلاء النسوة البقاء خارج إطار المواطنة كما حكم عليهنَّ المجتمع بخروجهن من مظلة الحماية الاجتماعية بعد استقلالهنّ عن الرجل؟ هي تساؤلات مشروعة ومطروحة منذ ما قبل الحرب، حين ارتفعت أصوات نساء وناشطات ومنظمات المجتمع المدني المعنية بقضايا المرأة وحقوقها، للمطالبة باعتماد سجل مدني (قيد) أو صحيفة مدنية خاصّة بالمرأة العازبة أو المطلّقة تجنّباً لمشكلات ومعاناة لا تقتصر فقط على البطاقة العائلية. لكن الحكومة السورية والمشرّعين صمّوا آذانهم عن مشروعية هذه المطالبات المتكررة، إمعاناً منهم في ممارسة مزيد من «العنف والتمييز» ضدّ المرأة، كلما سنحت لهم الظروف المواتية.