لم تحدث المعجزة. ولم تخرج قمة سرت بجديد. فسياق الأحداث، والمعطيات العربية كافة، بل وتاريخ القمم العربية منذ مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002 كانت ترجح أن القمة ستنتهي بنتائج جد متواضعة وربما خجولة قياساً إلى عنف التحديات والتغيرات المتلاحقة في مسار عملية السلام والانتهاكات الإسرائيلية في القدس، والخلافات العربية - العربية. قمة بيروت التي شهدت مبادرة السلام، وقمة اللاءات الشهيرة في الخرطوم عام 1967 التي أعلنت فيها الدول العربية أنه لا اعتراف، لا صلح، لا تفاوض مع إسرائيل، وقمة بغداد 1978 التي رفضت كمب ديفيد وأعلنت مقاطعة مصر، هي بصدق نقاط تحول كبرى في المسار التاريخي للقمم العربية كآلية معتمدة للتعبير عن النظام العربي، بغض النظر عن مضمون وتوجهات هذا التحول ونتائجه. وربما باستثناء تلك القمم، تندرج القمم العربية الأخرى في إطار إما التكرار الممل للخلافات والانقسامات العربية المعلنة وغير المعلنة، أو الممارسات الخطابية التي تتسم بالبلاغة اللفظية واللا معنى والتي أضحت مدعاة للسخرية والتندر من كثرة استخدامها لمفردات الدعم والشجب والإدانة وما ينبغي عمله، والعمل من أجل، وضرورة السعي.. إلى آخر تلك المفردات والجمل النمطية التي باتت غير قادرة على ستر عورات النظام العربي وفشله وعجزه المتزايد عن قيادة الأحداث والتأثير فيها بقوة تتناسب والإمكانات المادية والرمزية للدول والشعوب العربية. قمة سرت ومقرراتها، والتبريرات التي أعلنت للتغطية على اختصار الجلسة الختامية - بسبب خلافات وتجاذبات من حضر من القادة العرب - تدخل بامتياز ضمن الممارسات الخطابية اللفظية التي أصبحت إحدى أهم سمات القمم العربية بل والعمل العربي المشترك، إذ ينفصل الكلام عن الفعل في هذا الخطاب، وبالتالي عن الواقع، ويصبح الكلام هو مناط الفعل وحدوده. ومن ثم فمن الطبيعي أن تطرح أفكار وتصورات غير واقعية، وتصدر قرارات غير ملزمة وبلا ذاكرة. فالجميع أصبح على قناعة راسخة، حتى لو لم يدركها في نفسه، أو يعلن عنها أو يعترف بها، أن الكلام هو مجال الممارسة الخطابية. يصبح الكلام فضاء للتعويض عن العجز والفشل، ويصبح الكلام مجالاً وحيداً للفعل، سواء كان إدارة الصراعات مع أطراف عربية أو أعداء خارجيين أو أعداء محتملين. ولا شك في أن هناك جذوراً ضاربة في ثقافتنا العربية تحتفي بالكلام وببهاء الخطابة ورنينها، وبالتالي تطرب إذا جاز القول للمزايدات الكلامية والنضال اللفظي حتى لو كان منقطع الصلة بالواقع. في هذا السياق برزت في الكلمات الافتتاحية في قمة سرت لهجة نقدية للذات ولمستوى أداء النظام العربي، ومع ذلك لم تأت بجديد، فالإقرار بوجود أزمة عامة تعطل العمل العربي المشترك، وأن الحصاد بين القمتين كان بائساً وهزيلاً، وأن الجماهير تطالبنا بأفعال لا أقوال، وقرارات قابلة للتنفيذ تستجيب تطلعات الجماهير، كل هذه العبارات والأقوال تكررت من قبل في الكثير من القمم العربية، وأصبحت من مأثورات الممارسات والخطب السياسية العربية التي تقتصر علي دائرة الكلام للتنفيس أو إبراء الذمة. وعلى سبيل المثال فالدعوة إلى تشكيل لجنة برئاسة ليبيا للعمل من أجل إنهاء أزمة العمل العربي المشترك، هي مجاملة ديبلوماسية رفيعة المستوى للزعيم الليبي الذي يعتبر وحتى هذه اللحظة القاسم المشترك الأكبر في الكثير من الأزمات والتوترات العربية - العربية أو العربية - الأوروبية . إعلان سرت بدوره عكس الممارسة اللفظية نفسها، فالمقررات في ضوء تاريخ القمم السابقة تحولت إلى صياغات منمقة وحائرة تكتب بصيغ مطاطة تحاول التوفيق بين مواقف عربية منقسمة ومتصارعة. من هنا فإن الاتفاق على عقد قمة عربية استثنائية لمتابعة تنفيذ اتفاقات قمة سرت لن يكفل تنفيذ قرارات القمة أو يعيد لها الصدقية والفاعلية. ويمكن النظر إلى هذا القرار من زاوية أنه اعتراف صريح بضعف التزام أطراف النظام العربي بتنفيذ مقررات قمة سرت كغيرها من القمم السابقة، وبالتالي الحاجة إلى إيجاد آلية على مستوى القمة أيضاً! لمتابعة التنفيذ وضمان جدية التزام أطراف النظام طواعية بما سبق واتفقوا عليه. وهذا يعني: أولاً: الإقرار بعجز آليات العمل العربي المشترك التي تتشكل من مستوى أقل من الرؤساء والملوك العرب على الاتفاق أو اتخاذ موقف سياسي. وهو أمر يكشف مدى عجز مؤسسات النظام العربي على العمل وافتقارها الى الفاعلية والصدقية. ثانياً: إننا بصدد قمتين عربيتين في عام واحد، الأمر الذي قد يعتبر اعترافاً ضمنياً بفشل قمة سرت، فهي لم تستطع التوصل إلى اتفاقات حول القضايا الخلافية التي تصدرت جدول أعمال القمة، وفي مقدمها تطوير العمل العربي، وإقامة اتحاد عربي، وإقامة منطقة جوار عربي. لذلك اتفق الجميع على تأجيل كل شيء إلى قمة قد تعقد أو لا تعقد في الخريف المقبل، لأنها رهن بمدى تحسن العلاقات العربية - العربية، وإنجاز عدد من المصالحات الضرورية، والتي أخفقت قمة سرت - وعلى عكس كثير من القمم السابقة - في تحقيقها. أزمة الثقة في تنفيذ مقررات قمة سرت وغيرها من القمم تجسد أحد أهم ملامح أزمة النظام العربي وعجزه، ويمكن القول إنها سبب ونتيجة في آن معاً. فأزمة الثقة هي نتيجة طبيعية لضعف النظام العربي وعجزه، كما أنها سبب أزمة وفشل النظام، وبالتالي تنتفي القدرة وربما الرغبة في إصلاح النظام العربي أو تغيير الأسس التي يقوم عليها. وتتحول للأسف محاولات إصلاح النظام العربي والجامعة العربية ومنظماتها إلى مجرد ممارسات لفعل الكلام. وبدلاً من البحث الجاد عن قطيعة مع فعل الكلام والتحرك الى الأمام نحو تجديد النظام العربي بحيث يتمكن من استيعاب التحولات الكثيرة التي جرت في الواقع العربي والعالم من حولنا، يمارس النظام العربي إدمانه الكلام من خلال طرح أفكار وتصورات غير واقعية وتتناقض أصلاً مع مصالح النظام الإقليمي العربي بل ومع وجود النظام نفسه. فالرئيس اليمني يقترح قيام اتحاد عربي على غرار الاتحاد الأوروبي، وعلى رغم أن كل الشواهد والمعطيات في أرض الواقع لا توفر أي فرص حقيقية لنجاح مثل هذا الخيار، فإن قمة سرت تتحدث في بيانها الختامي عن تشكيل لجنة عربية خماسية تتكون من خمسة زعماء عرب لإعداد وثيقة لتطوير العمل العربي المشترك، وترحب بكل المقترحات التي طرحت للنقاش، بما فيها الاتحاد العربي ومشروع الجوار العربي. أي أنها اختارت القفز الى الأمام والتأجيل بدلاً من مواجهة أزمة النظام وإصلاح آليات عمله وتجديده، فهناك مشاريع عدة جيدة قدمت في قمم سابقة لإصلاح الجامعة العربية وتطوير العمل العربي المشترك، والمفارقة أن هذه المشاريع أقرت ولم تنفذ. من جانب آخر لا بد من العمل الجاد كي يستعيد النظام العربي عافيته أولاً، ثم التفكير في التقدم للأمام نحو قيام اتحاد عربي أو إقامة منطقة جوار عربي. لا يخفى على أحد، بما في ذلك الأمين العام للجامعة العربية، أن النظام العربي بصورته الحالية وأزماته المزمنة مهدد بالانهيار، فهناك دول عربية عدة معرضة للتفكيك وتعاني من مشكلات بناء الدولة الوطنية الحديثة، وفي مقدمها اليمن والصومال والسودان والعراق. كما لا يخفى على أحد أن المنطق والمصلحة العربية يفرضان الحفاظ على النظام العربي والعمل الجاد لإخراجه من عجزه وأزمته عوضاً عن القفز مرة أخرى الى الأمام وبعيداً من الواقع من خلال تبني أفكار وتصورات مبهمة لإقامة منطقة جوار عربي تضم تركيا ودول الطوق الأفريقي مثل أثيوبيا وتشاد. وتردد أن هذا الاقتراح قصد به إدماج النظام الإقليمي العربي ضمن منظومة أكبر لتعظيم قدرات النظام العربي في مواجهة إسرائيل من جهة، وضد محاولات أوروبية وأميركية لخلق ترتيبات إقليمية جديدة كالشرق الأوسط الكبير والمتوسطية تدمج إسرائيل فيها وتقلص من مكانة ودور النظام العربي. وقد اعتبر تبني إعلان سرت لهذا المقترح أحد أهم إيجابيات القمة، لكنني على العكس أرى أنه خطوة غير مدروسة وستزيد من الخلافات العربية حول من سينضم إلى منطقة الجوار، وكيف ستعمل، ومن الأطراف أو الطرف الأكثر استفادة، ثم والأهم ماذا عن مكانة إيران ودورها في هذا التجمع الذي يعتمد معايير جغرافية وثقافية في تكوينه تجعل من استبعاد إيران أمراً عصياً على الفهم ؟ إيران في قمة سرت كانت الغائب الحاضر، فقد حضرت قمة الدوحة السنة الماضية، وغابت عن قمة سرت، وحلت محلها تركيا، لكن قضية الجزر والملف النووي الإيراني والدور الإيراني في العراق واليمن كانت هواجس تطرقت لها مناقشات قمة سرت، وتناولتها مقررات القمة على نحو تقليدي مثل الدعوة لإنهاء الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث. ولا شك في أن تركيا وإيران تكسبان كل يوم نفوذاً ومصالح جديدة على حساب النظام العربي، وتحتم المصالح العربية الحوار مع البلدين وإقامة علاقات تعاون لكن ضمن شروط تراعي مصالح النظام العربي والدول العربية التي تكون هذا النظام، بغض النظر عن مسار وتداعيات المواجهة الغربية مع إيران في شأن ملفها النووي. صحيح أن هذا الملف الشائك يتداخل مع المصالح العربية ويؤثر فيها لكن المصلحة العربية تحتم البحث عن نوع من الفصل بين المعالجة الغربية - الأميركية للملف النووي الإيراني وبين المعالجة العربية التي ينبغي أن تقوم على الحوار مع إيران، والسعي نحو إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، بما قد يعني إيجاد نوع من الربط بين الملف النووي الإيراني والترسانة النووية الإسرائيلية. أخيراً فإن قمة دعم صمود القدس لم تقدم الكثير للقدس وللقضية الفلسطينية، فقد أقرت ما اتفق عليه وزراء الخارجية العرب وأهمها ربط استئناف المفاوضات بوقف الاستيطان في القدس وزيادة موازنة دعم القدس إلى 500 مليون دولار، والمطالبة برفع الحصار عن غزة. أما مصير مبادرة السلام والخلاف حول جدوى تجميدها أو سحبها أو الإبقاء عليها فيبدو أنها كانت من القضايا المؤجلة أو المسكوت عنها كما هو المنهج السائد في قمة سرت، تماماً مثل الاقتراح باستصدار قرار من مجلس الأمن يدين الاستيطان في القدس، ومثل عدم القدرة على اختيار مقر عقد القمة الثالثة والعشرين. * كاتب وجامعي مصري