عبد الباسط الساروت، الشخصية المثيرة للجدل والتي كانت وما زالت، رغم كل شيء، من أكثر الشخصيات المحبوبة التي ظهرت منذ بداية الثورة السورية، ملاحق اليوم مع من تبقى من «كتيبة شهداء البياضة» التي يقودها، في أرياف مدينة حمص، مسقط رأسه، والناشطون أطلقوا حملة «أنقذوا الساروت» للمطالبة بإنقاذ حياته وحياة رفاقه. لم يكن الساروت قبل الثورة السورية جندياً أو مقاتلاً أو من حاملي السلاح، كان حارس «نادي الكرامة» السوري ومنتخب سورية للشباب، وقد فاز بلقب ثاني أفضل حارس مرمى في قارة آسيا. لكنه مع بداية الثورة ترك كل شيء وقاد التظاهرات في حمص، عاصمة الثورة، وكان لا يزال آنذاك في التاسعة عشرة من عمره. حين برز اسمه وأصبح السوريون وغير السوريين يرددون هتافاته، وقبل أن يعلنه النظام السوري كمطلوب للسلطات، سارع الاتحاد الرياضي العام في سورية إلى فصله ومنعه من اللعب مدى الحياة، وكان تعليقه الساخر على ذلك: «ضحينا بحياتنا والناس تموت وهم يسألون عن الاتحاد الرياضي... هل يضمنون أنفسهم واتحادهم الرياضي؟». في مطلع تموز (يوليو) 2011، اتهم النظام الساروت بإنشاء إمارة سلفية في حمص ورصد مكافأة مقدارها مليوني ليرة سورية لمن يساعد بالقبض عليه. لم يستطع في البداية أن يلتقي بوسائل إعلامية ليوضح الأمر ويدافع عن نفسه، فأصدر بياناً في فيديو نشره على موقع «شام» المعارض على «فايسبوك» نفى فيه هذا الإتهام. ومع تحول المسار الثوري للحراك العسكري، شكل الساروت مع مجموعة من أبناء حيه «كتيبة شهداء البياضة». وقد حاول النظام السوري اغتياله ثلاث مرات على الأقل، وقتل ثلاثة من أخواله، وأربعة من إخوته: وليد الذي قتل في الخالدية عام 2011، محمد الذي قتل أوائل العام 2013، وأحمد وعبدالله الذين قتلا في 9 كانون الثاني 2014 في حادثة المطاحن. حاول عبد الباسط مع كتيبته فك حصار حمص من الداخل وعبروا إلى منطقة المطاحن التي كانت تسيطر عليها قوات النظام ليجلبوا الطحين للمحاصرين، وقتل أكثر من 40 فرداً منهم، من بينهم إخوته. يوم خروجه من حمص المحاصرة في الثامن من أيار (مايو) 2014 قال الساروت: «إذا بقينا نتبع الأتباع والأنصار والكتائب والأسماء والمسميات والجبهة والدولة مطولين كتير». وبعد خروجه مع بقية المقاتلين من مدينة حمص إلى ريفها، وفق اتفاق فك الحصار الذي وقع بين المقاتلين والنظام السوري، تواردت أنباء عن بيعته لتنظيم الدولة الإسلامية، «داعش». باسط لم يبايع «داعش» ولم يبايع «النصرة»، وقد نشر فيديو على مواقع التوصل الإجتماعي قال فيه: «نحن كتيبة شهداء البياضة لا ننتمي لأي فصيل ولا ننتمي لأي مجلس ولا ننتمي للإئتلاف ولا ننتمي لأي تنظيم ولا ننتمي لأحد. هدف هذا التشكيل مقاتلة النظام حتى آخر قطرة دم». لكنه مع ذلك، لم يخف استعداده للتعاون مع «جبهة النصرة» ومع «تنظيم الدولة الإسلامية»، ولم يخف تحيزه لطائفته، لكنه أصر على أن الدين لا يأتي بالقوة بل «بالدعوة الطيبة» كما يقول. في الثالث من تشرين الثاني 2015، هاجمت «جبهة النصرة» مجموعة من عناصر الساروت بهدف اعتقالهم فرفضوا تسليم أنفسهم واندلعت على أثر ذلك اشتباكات تطورت إلى هجوم الجبهة وفصائل أخرى على مقرات «كتيبة شهداء البياضة» ومقتل وأسر عدد من أفرادها. واستطاع الساروت الهرب إلى أرياف حمص والنجاة مع من تبقى حياً من أفراد كتيبته. باسط الذي قدم نفسه شهيداً منذ بداية الثورة وكان أول هتاف أطلقه «اسمع اسمع يا قناص هاي الرقبة وهذا الراس»، والذي غنى «جنة جنة» و «حانن للحرية» و «لأجل عيونك يا حمص»، لا يعرف أن ما قدمه هو من أسمى أنواع الفن وأكثرها تأثيراً، ولا يعرف أن الحرية التي يغني لها والتي يعيد ويكرر أنها مطلبه لن تأتي من طريق «داعش» ولا «النصرة» ولا أي تنظيم ديني آخر، لأنه كالكثير من السوريين مجبول بالغضب والحماسة اللذين يطغيان على الوعي في بعض الأحيان. ما يطلبه العالم من الساروت يفوق طاقته، ابن الثلاثة والعشرين ربيعاً الذي أصبح قائد كتيبة مسلحة رغماً عنه، نشأ في بيئة دينية محافظة، وفي لحظات الخوف والضعف يهرب الإنسان دائماً إلى إيمانه ليستمد القوة، فما بال الشاب الذي وجد نفسه فجأة محارباً على الجبهة ضد نظام يدمر مدينته ويقتل ناسها أمام عينيه، وهو لا يعرف طريقاً غير التنظيمات الدينية للمواجهة. استطاع باسط أن يكسب قلوب الناس بعفويته وبساطته وبسمته الدائمة وروح الفكاهة التي يملكها حتى في أصعب الظروف، واستطاع بشخصيته القيادية وثقته بنفسه وإيمانه العميق وأمله الذي لا ينقطع أن يجعل الناس تهتف بصوت واحد حين تراه «عبد الباسط الله يحميك». الساروت مثله مثل باقي السوريين الذين لم يجدوا بعد الوقت ليحزنوا على شهدائهم، صرخ من قلب الحصار في حمص «شهداؤنا في الأرض لا نستطيع دفنهم، ليس هناك دمار أكثر من هذا»، وفي لحظات ضعفه وألمه بكى الشهداء وأوصى رفاقه ألا يذهب دمهم هدراً، وقال ليخفف الألم عن نفسه أن أحسن نعمة خلقها الله للإنسان هي النسيان، وهو يعرف أنه لن يستطيع أن ينسى.