تفتح الجدالات العاصفة حول التشكيل الجديد لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين فرصة ثمينة لمقاربة وعي الواقع، وإدراك ملابساته وما يحيط به، في حقل بالغ الإلتصاق بالحياة هو حقل الثقافة، بمفرداتها وتحقُقاتها الفعلية. وإذ يتعلّق الأمر في شأن كهذا يصبح بديهياً أنه لا يهتم أدنى اهتمام بالأسماء والأشخاص قدر اهتمامه بالكيفيات التي أوجدت حالاً بالغة الرّثاثة، وتلحُ على الجدل ومحاولة الخروج نحو أفق أكثر قرباً من الأمل. عقد مؤتمر للكتاب الفلسطينيين في مدينة «البيرة» الملاصقة لرام الله، قيل أن حضوره بلغوا ثمانية وسبعين عضواً من أصل نيف وخمسمئة عضو هم أعضاء الاتحاد. هؤلاء خاضوا انتخابات لاختيار قيادة جديدة، كان أبرز عناوينها عزوف الأغلبية عن ترشيح أنفسهم أمام «قائمة الوحدة الوطنية» التي تمثّلت فيها الفصائل والأحزاب (انسحبت منها الجبهة الشعبية فقط) والتي يشكو الكتاب تقليدياً من سطوتها على الحياة الداخلية لاتحادهم، ومن دورها السلبي في جعل مؤسستهم النقابية تابعة في صورة مباشرة للقيادة الرّسمية الفلسطينية. بكلام آخر، لعلّه أكثر وضوحاً هذه المرّة، لقد أنتج المؤتمر الجديد غياباً جديداً لدور المؤسسة النقابية والثقافية الفلسطينية، وأعاد الاعتبار لفكرة إهمال دور الكتاب والمثقفين، وتكريس تبعيتهم شبه المطلقة للقيادة السياسية الرّسمية التي رأت فيه تاريخياً مجرّد يافطة ترفعها في مناسبات وأحوال تقتضي ذلك. الأخبار التي جاءت من الضفة الغربية تؤكد أن المؤتمر العتيد عقد بإشراف ورعاية السيد توفيق الطيراوي، «مفوّض المنظمات الشعبية» في اللّجنة المركزية لحركة فتح، وهنا بالذات علينا أن نلاحظ: أولاً: أن السيد الطيراوي وعلى رغم موقعه القيادي البارز في فتح لا يشغل أيّ موقع رسمي في منظمة التحرير الفلسطينية التي هي الإطار الوطني الجامع. ذلك يدفعنا للتساؤل إن كان المؤتمر هو لكتاب حركة فتح وحدهم، وهو سؤال تنفيه مشاركة الآخرين، وشمولهم بقراراته وهيئاته «المنتخبة» الجديدة. ثانياً: يدفع إشراف السيد الطيراوي على أعمال المؤتمر وانتخاباته للتساؤل بحق عن العلاقة بين الأدب والثقافة عموماً والأمن باعتبار الطيراوي تاريخياً رجل أمن، وكان آخر وظائفه هناك وظيفة المدير العام لجهاز المخابرات العامة الفلسطينية كما يعرف الجميع. ليست هذه مسألة شكليّة، ولا أعتقد أن بالإمكان تجاوزها والقفز عنها بالقول إن الرّجل مكلّف بملف المنظمات الشعبية، فذلك قول لا يشفع لمجرّد فكرة وضع الكتاب والمثقفين في قبضة السلطة الأمنية إطلاقاً. ثالثاً: يلحظ المتابع لأعمال المؤتمر ونتائجه أن القيادة الجديدة للاتحاد قد أتت ثمرة غياب العدد الأكبر من الأعضاء وأيضاً أنها كانت بالتزكية، أي من دون وجود منافسة من أي نوع للقائمة التي ترشّحت وفازت. لا ننظر هنا للمسألة من زاوية قانونية شكلية، ولكن من تلك الزاوية التي ترى ضرورة وأهمية أن يعبّر المؤتمر عن حيوية الثقافة وحيوية تفاعل منتجيها في مساحة المؤسسة النقابية. هذا بالذات يعيدنا مرّة أخرى إلى المأزق التاريخي الذي عاشه الاتحاد وكان السبب الأهم في ارتباكه وفقدانه دوره الحقيقي، ونعني هنا مسألة «الكوتا» الفصائلية، ومعها «القائمة الموحّدة» التي تشكّلها الفصائل والتنظيمات والأحزاب. أعتقد أن، هذا كلّه يضع الاتحاد من جديد في مأزقه التاريخي ويعيده ويعيدنا معه إلى «المربع الأول». هنا لا بد من ملاحظة مسؤولية الكتاب أنفسهم، وهشاشة دورهم، وكلُ ذلك ناتج في رأيي عن ضعف استقلالية الكاتب الفلسطيني بفعل عوامل عديدة لعلّ أهمها السبب المعيشي الذي يجعل غالبية الكتاب والمثقفين الفلسطينيين موظفين عند السلطة ودوائر منظمة التحرير الفلسطينية، ما أنتج حالاً من التبعية وركاكة الأداء، وفقدان أية درجة من درجات التكافل والتضامن بين الكتاب أنفسهم. لا نرى ذلك كلّه في معزل عن الكيفية التي تأسس فيها الاتحاد، والتي حملت منذ البداية طابعاً فصائلياً ضعيف الصلة بالثقافة، فالمؤتمر التأسيسي الذي انعقد في قاعة جمال عبد الناصر في جامعة بيروت العربية في أيلول (سبتمبر) 1972 جاء وليد تقاسم فصائلي للعضوية ما فسّر غياب الثقافة عن أغلبية حضوره، إلى الحدّ الذي جعل المؤتمرين يسقطون أبرز رموز الأدب والصحافة ومنهم على سبيل المثال إحسان عباس، معين بسيسو، شفيق الحوت لسبب بسيط هو أنهم ترشّحوا لانتخابات الأمانة العامة بصفاتهم الشخصية، ولم تشملهم «قائمة الوحدة الوطنية» ما دفع الشاعر الراحل معين بسيسو لإطلاق جملته الساخرة: والله لو ترشح المتنبي خارج تلك القائمة لسقط في الإنتخابات. ذلك التشكيل البائس أعاد إنتاج نفسه في صورة أشد بؤساً في «مؤتمر البوريفاج» في بيروت، يوم تمّ انتخاب القائمة ذاتها في صورة مكشوفة وعلنية المراقبة من خلال وقوف مصوّر تلفزيوني يقوم بأخذ لقطة زوم لكل ورقة انتخابية يدلي بها عضو من أعضاء المؤتمر. على أن هذا كلّه ظلّ يجري دائماً تحت ظلال الشعارات الوطنية والبرنامج الوطني، وغابت إلا قليلاً الفكرة الحيوية الصائبة عن أهميّة النظر للبرنامج الوطني بوصفه إطاراً سياسياً جامعاً لا يلغي حرّية الجماعات والأفراد عن الاحتفاظ بملامحهم وبأدوارهم المستقلّة والمميزة. هنا أيضاً علينا أن نقول بوضوح ومن دون الخشية من أصوات تندّد هنا وهناك بخطورة فقدان هذا الاتحاد: نعم لقد آن الأوان أن يمتلك الكتاب مؤسّستهم أو حتى مؤسساتهم النقابية والثقافية التي تستطيع أن تعبّر عنهم، وأن تطلق حرّية تفاعلهم. ذلك ممكن فقط بعيداً من الهيمنة الفصائلية والتشكيل الرّسمي، فالبرنامج الوطني لا يرتبط بالقيادة كمجموع أو كأفراد بل بعلاقته الحيوية بكلّ فئات المجتمع على أسس ديموقراطية أساسها المحافظة على قداسة استقلالية كلّ طرف من أطرافها. هي دعوة مفتوحة للجدل حول هذا الموضوع من كل الكتاب والمثقفين والمعنيين، كي يمكننا أن نتلمس خطوات صائبة للخروج من النفق المظلم.