لا تعكس أزمة الدين في اليونان، فقط ضعف المنافسة التي يعاني منها اقتصادها وانتشار الفساد في أجهزة دولة متخمة بالموظفين والبيروقراطية والفساد، بل أيضاً تقاليد وسياسات إنفاق عام تعتمد على التمويل بالعجز. وتسير بلدان جنوب أوروبا في شكل عام على خطى سياسات كهذه أكثر من بلدان شمال القارة، ما يفسر إلى حد كبير ارتفاع نسبة العجز في موازنات دول مثل اليونان وأسبانيا والبرتغال وفرنسا مقارنة بألمانيا وهولندا والسويد. ففي حين تراوح العجز في الأولى بين 8 و 13 في المئة، بقي في الثانية في حدود 2 إلى 5 في المئة خلال السنوات التي تلت اعتماد اليورو كعملة مشتركة. وعلى رغم أن كل دول منطقة اليورو تخرق بهذا القدر أو ذاك بند معاهدة ماسترخت الذي حدد النطاق الأعلى لعجز الموازنة بنسبة 3 في المئة من الناتج لضمان استقرار هذه العملة، فإن مخالفات دول شمال القارة بقيت في حدود يمكن تصحيحها خلال فترات قصيرة، مقارنة بمخالفات دول في جنوبها وصلت إلى حدود إثارة مخاوف جدية على مستقبل اليورو كما في حال اليونان الذي وصل عجزها إلى 12.7 في المئة من الناتج خلال العام الماضي. وبغض النظر عن ضرورات استدعت مخالفات كتلك الناتجة عن أزمة المال العالمية، فإن تكرارها مرجح بسبب اختلاف تقاليد الإنفاق العام وأولويات السياسات الاقتصادية عامة والمالية بخاصة في دول منطقة اليورو. وقد وصف عضو لجنة حكماء الاقتصاد في ألمانيا بيتر بوفنغر هذا الاختلاف بالفوضى التي تشكل خطراً اكبر من خطر عجز الموازنات على بلدان الاتحاد الأوروبي. اعتادت دول أوروبية في مقدمها اليونان وأسبانيا والبرتغال خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، على مستوى معيشة أعلى مما يسمح به مستوى أداء اقتصاداتها. تارة بفعل دعم الدول الأوروبية الأغنى، في إطار مشروع مقاربة مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي في دول الاتحاد الأوروبي، وتارة أخرى عبر الاقتراض والتمويل بالعجز. غير أن هذا العجز تجاوز الحدود المسموح بها ووصل في دول كاليونان وأسبانيا والبرتغال وأرلندا إلى حدود دفعت خبراء وسياسيين أوروبيين أمثال رئيس مجلس وزراء مالية دول منطقة اليورو جان كلود يونكر، إلى التحذير من خطر انهيار الوحدة النقدية لهذه المنطقة في حال عدم اتخاذ إجراءات عاجلة لتنسيق السياسات الاقتصادية والالتزام بمعايير الاستقرار المالي والنقدي التي حددتها الاتفاقات الأوروبية. وهكذا فإن مشكلة العجز المالي في منطقة اليورو لا تشمل اليونان فقط، بل أيضاً دولاً عدة أخرى كأسبانيا التي تتمتع بثقل أكبر بكثير من الثقل اليوناني في هذه المنطقة. ومن هنا يأتي الرفض أو التحفظ الأوروبي عامة والألماني بخاصة، على تقديم مساعدات مباشرة لأثينا من أجل مواجهة أزمة ديونها، فمثل هذا الدعم قد يشكل مبرراً لطلب دول أخرى بالحصول على دعم مماثل لا تستطيع المفوضية الأوروبية ومن ورائها ألمانيا وفرنسا وهولندا القيام به. ويعود السبب إلى معاناة الأخيرة نفسها عجزاً في موازناتها بسبب تكاليف الأزمة العالمية والبطالة. لذلك، على الدول التي تعاني عجزاً مالياً، مساعدة نفسها بنفسها من خلال سياسات تقشف قاسية تتوافق مع الاتفاقات الأوروبية التي تمنع على المفوضية الأوروبية تقديم مساعدات جماعية لتجاوز عجز كل دولة على حدة. لكن ماذا لو عجزت إحدى هذه الدول أو بعضها عن إنقاذ نفسها؟ في معرض الإجابة على ذلك يتفق معظم المراقبون والسياسيون على أن دول منطقة اليورو لن تسمح بإفلاس إحدى دولها لأن تكاليف الإفلاس ستكون أعلى بكثير من تكاليف الإنقاذ. غير أن إنقاذ هذه الدولة أو تلك من خطر الإفلاس على المدى القصير، لن يمنع من تكرار هذا الخطر على المدى المتوسط أو الطويل في ظل سياسات اقتصادية ومالية مختلفة لدول منطقة اليورو، على رغم وحدتها النقدية. ومن هنا تزايدت، أخيراً، المطالب الأوروبية التي يتلخص جوهرها في ضرورة قيام هذه الدول بالاتفاق على أولويات سياساتها الاقتصادية والمالية وتنسيقها، تحت سلطة جهات أو هيئات مشتركة تتمتع بصلاحيات أقوى من صلاحيات الحكومات الوطنية على صعيد اتخاذ القرار ومراقبة تنفيذه. وفي وقت يشك معظم المراقبين حتى الساعة باستعداد الأخيرة للتنازل عن صلاحياتها في السياسات الاقتصادية والمالية، فإن آخرين لا يستبعدون ذلك، لأن الضرورات والمصالح ستدفعها إلى ذلك كما فعلت عندما تنازلت عن سيادتها النقدية لمصلحة البنك المركزي الأوروبي. * إعلامي وخبير اقتصادي