6 مناطق في العالم اختارها الوثائقي التلفزيوني «الثقافة في المناطق الخطرة» من بينها النقب في الأراضي المحتلة، كعينات لأمكنة يصعب على المبدعين فيها ممارسة نشاطاتهم بسبب القمع الممارس ضدهم من الأجهزة الأمنية والعسكرية. في كل حلقة يقابل البرنامج مبدعين يصرون على تقديم إبداعهم رغم معرفتهم بالخطر المحدق بهم، من بين هؤلاء الفنان أرتيوم لوسكوتوف الذي ينظم «التظاهرة الثقافية» في مدينة نوفوسيبريسك ويطالب السلطات الروسية فيها برفع يدها عن الثقافة والسماح للمثقفين والمبدعين بالتعبير بحرية عن أفكارهم. في كل تظاهرة يُعتقل عدد من المشاركين ومع هذا يصرون على تنظيم الحدث سنوياً. يُعرّف البرنامج أيضاً بتجربة عازف الجاز الأميركي بريس ميلر ومحاولته الدائمة إحراج المؤسسات الحكومية في مدينة نيو أورلينز من خلال ما يقدمه مهرجانه الموسيقي من دعم للمتضررين من إعصار «كاترين» الذي ضرب المدينة قبل عشر سنوات، ظل أهلها خلالها يعانون من الإهمال والخراب الروحي والاجتماعي وهذا ما لا تريد السلطات إظهاره فتندفع بقوة لمنع هذا النشاط الثقافي. وفي حلقة مميزة يعاين البرنامج تجربة بعض الفنانين الفلسطينيين في مناطق ال48 والتي تعبر بشكل جيد عن فحوى البرنامج الذي أراد معدوه أن يكون شاملاً ويعكس الواقع الذي يعيشه هؤلاء على مستوى العالم بأسره. زامن البرنامج التلفزيوني زيارته لمناطق ال48 الفلسطينية مع ذكرى «النكبة» واستغل فرصة انهماك الفنانة الفلسطينية أمل مرقس في تقديم برنامج إذاعي عنها للدخول إلى عالم الثقافة الفلسطينية في ظل الاحتلال من خلالها. تُعرف مرقس عن نفسها: «أنا فنانة ومقدمة برامج وممثلة. ولدت في كفر ياسيف في الخليل، ومن الأقلية العربية التي تعيش في إسرائيل منذ عام 1948». قبل مرافقتها إلى الإذاعة في الناصرة يراجع الوثائقي تاريخ البلاد وكيف تحول أهلها إلى لاجئين في أرضهم. ومن غالبية مطلقة صاروا أقلية تعد عليهم قوات الاحتلال أنفاسهم وتعمل على محو موروثهم الثقافي وتاريخهم. في «إذاعة الشمس» أعدت مرقس حلقة عن يوم «النكبة» شارك فيها فلسطينيون عايشوها وما زالوا يتذكرون مآسيها ومع ذلك يصرون على مواصلة حياتهم على أرضهم والتشبث بثقافتهم التي عبرت بعض أغنيات مرقس التي قدمتها في البرنامج عن مشاعرهم الحزينة وحسرتهم على ما خسروه. أثناء تواجدهم معها تلقت مرقس دعوة من أهالي قرية الغبسية للمشاركة في المخيم الثقافي الذي ينظمه شبابها ويشرف عليه «المركز العربي للحقوق والتنمية». وأثناء توجهها إلى هناك تعلمها مكالمة هاتفية بأن الجيش الإسرائيلي منع الفعالية بحجة أن القرية تقع ضمن «المنطقة العسكرية». لكنّ المنظمين لم يقبلوا بقرار الإلغاء واكتفوا بالتأجيل. أما بالنسبة إلى مرقس فقررت الغناء في ساحة القرية وأمام أهلها في تحد صارخ لقرارات الجيش. ولم يتفاجأ الفلسطينيون بالقرار لمعرفتهم بأهدافه، فالقرية تتعرض ومنذ عقود إلى حصار دائم وتدمير منظم. وأثناء وجود فريق البرنامج فيها قالت أسراء كيالي من المركز: «لا يريدون أي نشاط يُحيّى ثقافتنا ويعيد قريتنا المدمرة إلينا. حتى مقبرتها وشواهد القبور فيها طمروها بالجرافات تحت السطح. الأكيد أن تجربة معسكر العام الماضي أزعجتهم كثيراً فقرروا عدم السماح بتكرارها هذه السنة واستندوا في منعهم إلى قرارات تعود إلى عام 1956!». شارك الفنان فراس، عازف آلة القانون، والدته تجربة الغناء أمام أهل القرية واعتبر الإقبال الشديد للجمهور عليها ومجيء آخرين من قرى مجاورة مؤشراً على حيوية الثقافة الفلسطينية واستحالة موتها. «نحن نسير على الطريق الصحيح والمنع والحصار يزيداننا إصراراً على العمل». يطغى الحزن على الأغنيات وتتسيد القضايا السياسية معظم النتاج الثقافي في تلك المناطق وبالنسبة إلى مرقس فإن تفسير ذلك سهل: «عندما تعيش في ظل ظروف قاهرة ويعاني شعبك من ويلات الحرب وتسيل الدماء كل يوم فإن الحزن سيطغى على كل ما تقول. ومهما حاولت أن تميل إلى الجانب المتفائل فإن حكايات الأهل ومعايشة الاحتلال يومياً تفرض نفسها على فنك وإبداعك». مع كل الحزن الغالب على مناطق ال48 وبخاصة النقب تلعب الموسيقى التراثية والغناء دوراً في إحياء الثقافة الفلسطينية وتاريخها ويتوقف عدد من الفنانين عند ذكرى «نكبة 48» وكيف انعكست على نتاجهم الذي أثر بدوره في الأجيال الجديدة من الفلسطينيين. أحاديث المبدعين المشاركين في البرنامج التلفزيوني تعطي لمشاهده، غير العربي، فكرة عن تاريخ الاحتلال ومسعاه لتحجيم الثقافة الفلسطينية والعمل على محوها من الذاكرة، وتجربة المعسكر الثقافي في قرية «الغبسية» مثالاً حياً سجلته كاميرات البرنامج وتابعت تطوراته. أما عن التفاعل الشعبي مع الحياة الثقافية الفلسطينية في مناطق ال48 فيظهر من خلال الاستقبال الطيب للفنانين في القرى والتعامل معهم كمبدعين يخاطرون بأنفسهم في كل نشاط يتحدون به المحتل ويقفون في وجهه.