ما يحدث في إيران هذه الأيام مؤشر على بلوغ الأزمة درجة لم تصلها من قبل طوال ال30 عاماً الماضية، التصرفات التي يقوم بها أرباب السلطة «الآياتيون» تدل على أن الألم بلغ مداه، لم يعد في وسعهم الرجوع لما قبل حزيران (يونيو) 2009 ولم ولن يستطيعوا إقناع الجموع الإيرانية بشرعية نظام أحمدي نجاد بعد يونيو، لم يعد أمامهم سوى أمرين لا ثالث لهما: إما أن يسلموا السلطة للشعب، وإما أن يواصلوا الرقص الأليم، ومن ثم يستلم الشعب السلطة بعد سقوطهم، في الحالين سيتسلم الشعب السلطة، إن عاجلاً بهدوء وسكينة، وإن آجلاً بعد جولة من الرقص الأليم المخضب بالدم. الآيات – كما قلت في مقال سابق – عادوا لاستخدام «السيوف الدينية» للقضاء على مخالفيهم وخصومهم، و«السلاح الديني» يشبه إلى حد كبير الأسلحة النووية، فهو لا يستخدم إلاّ في حالات الردع، عندما تعجز كل أنواع الأسلحة «الشرعية وغير الشرعية» الأخرى عن تحقيق الهدف. خلال حكم الشاه، حاول طلاب السلطة والثروة «وأيضاً المخلصون الذين كان هدفهم تخليص الشعب من معاناته» الوصول لكرسي الحكم بأكثر من وسيلة، لكنهم فشلوا بسبب سياسة اليد الحديدية التي كان يتبعها الشاه والمستفيدون من حكمه، الكثير من المعارضين الإيرانيين الذين كانوا يشهرون معارضتهم على أسس انتفاعية أو سياسية أو اقتصادية أو حتى شعوبية تم رميهم بالرصاص، أو رميهم في سجون الشاه المظلمة لسنوات طويلة، من غير أن ينتفض لهم شارع أو تثور لهم مدينة. الدروس المستفادة الكثيرة خلال حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وحكم أبيه، جعلت الخميني يختار سلاح الردع الديني عندما قرر هو وآياته المخلصون انتزاع الحكم «بكل ثمراته» من حضن الشاه والاحتفاظ به «بكل ثمراته» في طيات العمائم السود. قاد الخميني ثورته على أسس دينية انتفاعية، لذلك نجح في استعباد الشارع، الأمر الذي ساعده على الفوز بالسلطة والثروة، عرف الخميني من تجارب السابقين أن سلاح الدين هو الوحيد القادر على إسقاط الشاه من عليائه، خصوصاً مع تنامي المعارضة الداخلية له بسبب الأحوال الاقتصادية المتردية، لذلك لم ينحُ كما نحا غيره إلى استخدام أساليب المعارضة الدنيوية، بل لجأ مباشرة إلى قطع الخيط الذي يصل الناس بالسماء وإعادة وصله من جديد بعد أن وضع فيه بصمته الشخصية! هذه البصمة الشخصية - التي كان بطلها شريط الكاسيت - مهدت الطريق لعودة الخميني وتسلم الحكم بكل يسر وسهولة. كان المواطن البسيط في الشارع في شباط (فبراير) 1979 يحتاج فقط إلى أن يعلن الخميني موعد عودته لطهران ليسقط الحجر الأول من أحجار «الدومينوز» التي كان يقوم عليها مُلك محمد رضا بهلوي، بعد أن تشبع تماماً بإيمانيات الحرب الدينية الموجهة ضد رؤوس السلطة. كل الآيات الذين جاؤوا بعد الخميني استفادوا من ثمرات السلطة، مع احتفاظهم بمسحة دينية تعينهم في أيام السلم على استعباد الشعب واستبعاده من موائد الاقتصاد الإيراني الضخم، كلهم بلا استثناء أوهموا رجل الشارع البسيط أن وجودهم في السلطة مشيئة ربانية لا يحق لأي كائن أرضي الاعتراض عليها، وما الانتخابات الرئاسية إلاّ أدوات بشرية لتحقيق هذه المشيئة. 30 عاماً والإيرانيون يظنون أن الآيات رسل الله - غير المبعوثة - في أرضه، لكن عندما اكتشف الشعب في حزيران (يونيو) الماضي أن الرسل ما هم في الحقيقة سوى مغتصبي سلطة ومزوري انتخابات، ثارت ثائرتهم ضد الذئاب التي تلبس ثياب الحملان، وصاروا يعيدون في الشوارع المشاهد نفسها التي أداها آباؤهم وأجدادهم قبل 30 عاماً. لذلك فكر الآيات من جديد في سلاح الردع الأخير، وراحوا يتهمون المعارضين بحرب الله والرسول، ويرسلونهم للمشانق باسم الدين، لكن هل يمكن محاربة الشعب باسم الدين؟! هل يمكن توجيه البنادق باتجاه الناس «كشرائح عريضة» اعتماداً على فرمانات وبيانات دينية؟! يمكن لأي جماعة صغيرة أن تستثير الشعب ضد مؤسسة أعلى منها وأصغر منها حجماً باسم الدين. يمكن أن تنجح الحرب الدينية عندما يتم توجيه السهام من الأسفل إلى الأعلى في محاولة لإسقاط من هو عالٍ في الأصل، لكن يستحيل حدوث العكس. تستطيع أي جماعة «تتوسط سلم البناء السياسي والاجتماعي» إقامة الحرب الدينية ضد السلطة التي هي أعلى منها، لكنها تعجز عن تحقيق أهداف إعلان الحرب الدينية على الشعب الذين هم أدنى منها وأكبر حجماً. إذا كانت هذه هي الحال مع الجماعة الوسطى، فكيف تكون الحال إذا كانت السلطة نفسها هي التي تعلن الحرب الدينية على الشعب؟ هذا ما يمكن أن أسميه الوجه الديني من الرقص الأليم، الذي يقود في النهاية إلى الموت الساكن والهادئ. يستطيع الآيات أن يستعبدوا الناس لعشرات السنين باسم الدين، لكنهم لا ولن يستطيعوا أن يقتلوهم باسمه. الاستعباد الديني حال ملازمة للسلم، أما القتل فهو إعلان حرب دينية، والحرب الدينية العكسية ال «من أعلى إلى أسفل، أو «من أصغر إلى أكبر» قصيرة مدى وذات نتائج وخيمة جداً. الآيات يقتلون المواطنين الإيرانيين الآن باسم الدين، ينفونهم من الحياة بحد الحرابة، يتهمونهم بحرب الله والرسول. قتلوا العشرات خلال الشهور القليلة الماضية، وسيقتلون العشرات خلال الشهور القليلة المقبلة. لكنهم سيسقطون قريباً جداً فور انتهاء جولة الرقص التي يعيشون في أجوائها الآن، سيسقطون حتماً عندما يستخدم الشعب السلاح نفسه أو سلاحاً شبيهاً به في حربه ضدهم. هذا بالنسبة للوجه الديني من الرقص الأليم، أما الوجه السياسي من الرقص، فيمكن رصده بسهولة شديدة من خلال درس التصريحات الأخيرة لمحمود أحمدي نجاد وبقية الآيات الموجهة للخارج، قراءة صغيرة مثلاً في تصريح رئيس مؤسسة الدفاع عن القيم المقدسة سيد محمد تعطينا تصوراً كاملاً عن مدى الضعف الذي بات يعيشه النظام أخيراً، ويمكن لمن يتعمق أكثر في درس التصريح أن يحدد الزمن اللازم لسقوط الطير الذبيح في غيبوبته الأبدية. * كاتب وصحافي سعودي.