الكراهية الآن تتجلى بأبشع صورها في المشاعر والعلاقات الفردية وعلى المستويات الرسمية، وامثلتها مقززة ليس على وسائل التواصل الاجتماعي، وانما ايضاً في أشكال التعاطي مع اللاجئين السوريين وغيرهم من الفارين من حروب الشرق الأوسط. الحظ العاثر يلاحق اللاجئين، فهم بعد مجزرة باريس الخاسر الأكبر، حيث ارتفع منسوب الإذلال والكراهية والعنصرية ضدهم في كل مكان، ووصلت تداعياته الى بلغاريا المتهمة اصلاً بإذاقتهم أشد صنوف الإذلال والعذاب السلطوي والمجتمعي. فبعد ساعات معدودة على جريمة باريس انتشرت الجندرمة في الأحياء العربية، ومناطق تجمع اللاجئين ومراكز اقامتهم في صوفيا، التي تشرف عليها وتراقبها وكالة اللاجئين الحكومية. انظار الناس تلاحق بتوجس مفعم بالاستنكار. منظمة (اوكسفام) اتهمت السلطات البلغارية باستخدام العنف والقسوة المفرطة مع طالبي اللجوء الذين يصلون الى اراضيها. واستندت المنظمة على لقاءات أجريت مع أكثر من 100 لاجئ تمكنوا من الوصول بعد دفع مبالغ كبيرة الى مدينة تساريرود الصربية على الجانب الآخر من الحدود. وروى هؤلاء تفاصيل العنف والتعذيب على يد عناصر من الشرطة البلغارية، وإرغامهم على دفع الرشاوى مستخدمين الكلاب البوليسية لإرعابهم وابتزازهم. فيما الوسائل الإعلامية المحلية اطلقت عنان الشعبويين لنشر دعوات العنصرية لطردهم من البلاد. أعلنت وزيرة الداخلية رومانيا بتشفاروفا «ان 28 الف لاجئ غير شرعي يختبئون داخل البلاد، فيما يوجد في مراكز اللجوء 1350 لاجئاً فقط». وقال السكرتير العام للوزارة جورجي كوستوف: «إن أجهزة الشرطة قامت بتفتيش 600 موقع، وأجرت التحقيق مع مئات المشتبه بتعاطفهم مع تنظيمات اسلامية، واعتقلت 287 شخصاً بينهم 10 افراد مشتبه بعلاقاتهم بجريمة باريس» من دون ان يقدم تفاصيل. العنف البلغاري المفرط حكومات اوروبا الشرقية منها من بنى الجدران العازلة التي كانت انهارت قبل أكثر من 25 سنة مع سقوط جدار برلين، ومنها من مد الأسلاك الشائكة لمنع اللاجئين من الدخول. بلغاريا لم تكتف بتشييد سياج عازل، بل لجأت الى استخدام القسوة المفرطة والعنف مع من ينجح من العرب والأفارقة في التسلل عبر سياجها مع تركيا، وتفننت شرطتها الحدودية في تعذيب المخدوعين من قبل عصابات التهريب لدرجة تجريدهم من ملابسهم وأحذيتهم وسرقة ما في حوزتهم من نقود وهواتف نقالة من ثم رميهم الى الجانب الآخر من الحدود، حتى ان بعضهم لم يتمكن بسبب آثار الضرب المبرح من الوصول الى مركز نجدة في الطرف الآخر من الحدود ليعثر فيه على من يقدم له العون والمساعدة فمات متأثراً بجراحه. ما يثير الدهشة والاستغراب هو ان حرس الحدود البلغار الذين كانوا ضربوا اثنين من طالبي الحماية واللجوء من الايزيديين حتى الموت، صعّدوا من منسوب كراهيتهم ضد اللاجئين بقتلهم قبل اسبوعين صبياً أفغانياً عمره 19 سنة في اول حادثة قتل لطالب حماية ولجوء على الحدود الخارجية للاتحاد الاوروبي. أثارت جريمة القتل هذه صدمة في المفوضية الاوروبية، وفخراً وحماسة غريبين في أوساط اليمين البلغاري، لدرجة ان وزير ثقافة سابق معروف بنزعاته القومية المتشددة وطروحاته المثيرة للسخرية تصدر حملة لجمع التواقيع التي تطلب من الحكومة تكريم شرطي الحدود القاتل ومنحه صفة البطل القومي. في تقرير بثته إذاعة (دويتشة فيليه) الناطقة بالبلغارية عن خلفيات وملابسات ما حصل، وصفت الحادث بأنه «عملية قتل عمد»، وقالت: «ان الشرطي مرتكب القتل معروف بين رفاقه بأنه صياد متعطش للانقضاض على فريسته وبالتالي لا غرابة في طريقة تعامله مع مجموعة اللاجئين العزل الذين وجدهم أمامه، وكأنهم أرانب او خنازير برية، فأطلق على ظهورهم النار من دون ان يرف له جفن، فضلاً عن ان تعليمات القادة الأعلى وفق ما ذكرته بعض الصحف المحلية تدعو الى استخدام اقصى درجات العنف والقسوة ضد كل من يحاول الدخول الى بلغاريا طلباً للحماية ليكون عبرة للآخرين ورادعاً لهم عن التفكير بهذه المغامرة على رغم تعارض هذا السلوك وهذه الأوامر مع القوانين الاوروبية والدولية حول اللجوء والحماية». امران أثارا حفيظة وسخط واحتجاج الأوساط المثقفة ومنظمات المجتمع المدني، أولهما صمت الحكومة والبرلمان على هذه الجريمة ومحاولة ايجاد تبريرات لسلوك الشرطي المشين، اذ قامت وزارة الداخلية على لسان سكرتيرها العام الجنرال كوستوف بنشر معلومات كاذبة وافتراءات رخيصة عن ان اللاجئين كانوا مسلحين اشهروا اسلحتهم بوجه أفراد الدورية، ما اضطر احدهم الى اطلاق الرصاص في الهواء، ولكن الرصاصة اصطدمت بجدار جسر قريب وارتدت لتصيب أحد اللاجئين. وهي رواية نسفها بيان أصدرته لجنة هلسنكي التي قامت بتحقيق منفصل أثبت ان شرطيين وليس واحداً اطلقا النار مباشرة ومن الخلف على اللاجئين الذين لم يكن أحد منهم مسلحاً وكل ما فعلوه هو انهم فروا عندما داهمتهم الدورية وبعد اطلاقها النار عليهم وسقوط احدهم قتيلاً انبطحوا على بطونهم طالبين منحهم الحماية واللجوء، وفق ما ذكره محامو ومسؤولو لجنة هلنسكي في بلغاريا. وثانيهما إصدار ما يعرف باسم النقابة الوطنية للعاملين في الشرطة بياناً يعتبر الشرطي القاتل «موظفاً شجاعاً وغيوراً على وطنه يفخر الجميع ببطولته» وانهمرت تصريحات النواب والسياسيين من أحزاب قومية متشددة تثني على شجاعة الشرطي وتحرض على اللاجئين وتطالب برفض قرار المفوضية الأوروبية بإرسال مجموعة منهم الى بلغاريا. ولعل الأغرب هو رد فعل المفوضية الباهت على أول عملية قتل رسمية لطالب لجوء في أوروبا، فقد اكتفى رئيسها جان كلود يونكر بالقول إنه «لا يمتلك معلومات تفصيلية»، فيما قال رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك» ان الحادث يؤكد أهمية اتخاذ قرارات جريئة لمواجهة التحديات التي تفرضها أزمة اللاجئين». المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة اتخذت موقفاً أكثر صرامة بإدانتها الجازمة للقتل، وأعربت في بيان رسمي صدر عن مكتبها في صوفيا عن صدمتها الكبيرة للحادث المروع، وانضمت الى لجنة هلسنكي بدعوتها السلطات الحاكمة الى إجراء تحقيق نزيه وشفاف لكشف خلفيات الحادث وإحالة منتهكي القوانين الأوروبية والأعراف الدولية في التعاطي مع طالبي الحماية واللجوء الى القضاء. منظمات ألمانية لمراقبة الحدود في نيسان (أبريل) الماضي وزعت منظمة الدفاع عن حقوق الانسان (pro asyl) تقريراً صادماً عن أوضاع اللاجئين الذين يطلبون الحماية في بلغاريا، احتوى على رسالة رسمية من وزارة الخارجية الألمانية موجهة الى محكمة شتوتغارت تدعوها فيه الى عدم الحكم بإعادة اللاجئين القادمين من بلغاريا إليها لأن حقوقهم الانسانية ستتعرض لانتهاكات فظيعة. وتوصلت المنظمة من خلال تحريات خاصة ولقاءات أجرتها مع أعداد كبيرة من اللاجئين الى ان السلطات البلغارية تمارس عنفاً منظماً ضدهم، بما فيه التعذيب والإذلال والتجويع وهو ما يتعارض مع مبادئ حقوق الانسان والتشريعات الأوروبية والأعراف الدولية. ووفقاً للتقرير فإن اللاجئين الذين يحصلون رسمياً على حق الحماية واللجوء في بلغاريا، يتركون لمصيرهم ولا تقدم لهم أية خدمات او دعم من مؤسسات الدولة في مجالات الرعاية الطبية والتعليم والعمل، ويمارس بحقهم أقسى أنواع التمييز والعنصرية المزدوجة من الدولة والمجتمع. في أواخر الشهر الماضي نشر نشطاء يعملون في برنامج خاص بمراقبة الحدود البلغارية في إطار هيئة ألمانية (bordermonitoring.eu e.v.) مقرها ميونيخ على موقعها الإلكتروني معلومات مثيرة عن التعاون بين شرطة الحدود البلغارية وجمعية للصيادين في منطقة مالكو ترنفو الحدودية تقوم ضمنه الأخيرة بعمليات بحث عن لاجئين يتسللون في شكل شرعي عبر الحدود وتسلمهم الى الشرطة». وقامت مجموعة من المتطوعين العاملين في منظمة ألمانية اخرى للدفاع عن حقوق الانسان (birdwatching Bulgaria) بنشر تقرير في 17 تشرين الأول الماضي تضمن مقابلات أجروها مع لاجئين عراقيين وصلوا الى مدينة ديمتروف غراد الواقعة على الحدود البلغارية – الصربية تضم رجالاً ومجموعة من النساء وستة أطفال بينهم طفل رضيع. روى هؤلاء ان الشرطة البلغارية بعد ان ألقت القبض عليهم، قادتهم مباشرة الى سجن في صوفيا حيث مكثوا فيه 17 يوماً تعرضوا خلالها الى الاذلال والاهانات والضرب المبرح من رجال الشرطة والشرطيات ايضاً، وسرقة ما في حوزتهم من مال وهواتف محمولة، كما صودرت منهم الصور العائلية التي حملوها معهم من العراق، ومنعوا من استخدام المراحيض ولم يقدم لهم وللاطفال أي طعام ولا مياه الشرب، ولا حتى الحليب للطفل الرضيع، كما وأرغموا على تجميع الزبالة في فناء السجن». وأضافوا: «الرجال أجبروا على خلع ملابسهم والوقوف عراة بملاصقة الجدران حيث انهال عليهم رجال الشرطة بالضرب، والشتائم، كما أطلقوا العنان للكلاب البوليسية لمهاجمتهم، ومن ثم صبوا عليهم الماء البارد». وقالت احدى النساء: «الشرطيات قمن بضربنا وركل الأطفال». وفق ما ورد في التقرير. كراهية مجتمعية وصمت مؤسساتي الغالبية العظمى من البلغار تعتبر اللاجئين خطراً وتهديداً للبلاد وأمنها القومي، وتؤيد قيام الحكومة باتخاذ قرارات تمنع ايواءهم في البلاد. ويتضح من استطلاع أجرته وكالة «الفا ريسرش» ان 63 في المئة من البلغار يعدون اللاجئين خطراً يتهدد مستقبل المجتمع، وطالب 82 في المئة بتشديد الحراسة وإقامة الجدران العازلة على الحدود مع تركيا، ودعا 89 في المئة الى مكافحة شبكات التهريب واعتقال أفرادها وإنزال اقسى درجات العقاب بهم في المحاكم. ورأى 3.7 في المئة فقط ممن شارك في الاستطلاع أن بلغاريا يجب ان تنفتح وتقبل جميع طالبي اللجوء والحماية. بلغاريا هي الدولة الوحيدة العضو في الاتحاد الأوروبي والتي توجد فيها محطة تلفزيونية (ألفا) يمتلكها حزب نازي (اتاكا) تقوم على مدى 24 ساعة في اليوم ببث الكراهية والتحريض ضد اللاجئين والأقليات الأخرى في البلاد كالمسلمين والغجر من دون أن تتدخل مؤسسات الدولة المعنية بحماية الأقليات من التمييز والعنصرية وبث الكراهية، ويصمت المدعي العام ايضاً على تجاوزات المحطة والحزب وزعيمه الذي يتخذ من البرلمان منبراً إضافياً لنشر الكراهية والتحريض ضد اللاجئين. بلغاريا احتلت في التصنيف السنوي الصادر عن (Prosperity Index) في معهد (Legatum Institut) ومقره لندن المرتبة ال51 من بين 142 دولة في مؤشر التسامح مع الأقليات واللاجئين. ويشير التصنيف الى أنها تأتي فيما يخص التسامح الاثني والديني في مرتبة اسوأ من تايلاند واليونان ورومانيا، ولكنها أفضل من الصين وكرواتيا والبرازيل في هذا المجال. هروب جماعي من بلغاريا معسكرات ومخيمات اللجوء في بلغاريا تكاد تكون خاوية إلا من مئات عدة من اللاجئين الذين لا يمتلكون ما يكفي من الأموال ليستعينوا بالمافيا لتهريبهم الى ألمانيا او دول أوروبا الغربية الأخرى، ونجح آلاف من السوريين والعراقيين والأفغان في الهروب بعد دفعهم أموالاً الى هذه الشبكات لتهريبهم عبر ما يعرف ب «الطريق البلقاني» الذي يمر بصربيا ومقدونيا واليونان، وتفضح وسائل إعلام بلغارية بين الفترة والأخرى علاقات مشبوهة وتواطؤاً بين هذه المافيات ورجال الشرطة. وتشكو اليونان وإيطاليا من صعوبات في العثور على من يقبل من اللاجئين الذين وصلوا الى اراضيهما بالانتقال الطوعي الى بلغاريا في اطار خطة المفوضية الأوروبية لتقاسم 160 الف لاجئ بين الدول ال28 الاعضاء. وبحسب هذه الخطة فإن بلغاريا ستستقبل 1549 لاجئاً حتى نهاية العام 2016، على ان تصل الدفعة الأولى منهم وعددها 500 لاجئ في اواخر العام الجاري وفق ما ذكرته وزيرة الداخلية رومانيا بتشفاروفا. وستتسلم الوكالة الوطنية للاجئين من المفوضية الأوروبية عن كل لاجئ في بلغاريا مبلغاً قدره 6 آلاف يورو. ويشكو الاتحاد الاوروبي من سرقة ملايين اليوروات من الاموال التي قدمتها المفوضية الى الحكومة البلغارية لمساعدتها على مواجهة تدفق اللاجئين خلال السنوات الأربع المنصرمة. وقال ديبلوماسي أوروبي رفيع في ممثلية المفوضية في صوفيا في حديث خاص ل «الحياة» ان نحو 80 في المئة من هذه الأموال لم تنفق لتوفير ظروف انسانية وتقديم خدمات مختلفة للاجئين، بل الى جيوب مسؤولين حكوميين وموظفين فاسدين في المؤسسات المعنية». يبلغ عدد اللاجئين المسجلين في بلغاريا وفق احصاءات الوكالة الحكومية للاجئين لشهر أيلول (سبتمبر) نشرتها جريدة (سيغا)، 2074 لاجئاً من 20 دولة، حصل 433 منهم على صفة لاجئ. هذا فيما يبلغ عدد المتواجدين منهم فعلياً الآن 1633 لاجئاً وفق البيانات نفسها، ما يشير الى ان العدد الأكبر من طالبي اللجوء تركوا البلاد حتى قبل منحهم رسمياً صفة اللاجئ. وروت الصحيفة قصة عائلة لبنانية تتألف من زوجين وطفل رضيع عثرت عليهم الشرطة في محطة قطارات في مدينة روسا الواقعة على الحدود مع رومانيا خلال محاولتهم الهرب الى الجانب الآخر من الحدود في شكل غير شرعي، واتهمت النيابة الزوج بمحاولة تهريب المرأة مع طفلها، ووجهت الاتهام الى الزوجة بمحاولة تهريب الطفل، وحكم القاضي على الزوج بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ ودفع غرامة قدرها 500 يورو، وعلى زوجته بالسجن 7 أشهر مع وقف التنفيذ ايضاً، ودفع غرامة قدرها 100 يورو، وتوصل الطرفان بعد وصول قضيتهم الى منظمات حقوق الانسان الى اتفاق ثنائي يقضي إما بتقديمهم جميعاً طلباً للحصول على الحماية الأمنية او اللجوء الانساني، او العودة الى بلدهم الأصلي.