قدمت محطة «العربية» فيلماً وثائقياً للمخرجة المصرية ناديا كامل تحت اسم «عودة إلى الجذور». الفيلم الذي أثار بعض الجدل حين عُرض في بعض المهرجانات السينمائية يحكي قصة ماريا روزنتال، اليهودية المصرية، المتزوجة من الشيوعي المصري الراحل سعد كامل (هما والد ووالدة المخرجة)، وفيه تستعرض روزنتال جذورها الإيطالية وحكايتها «المصرية والإسرائيلية». قد لا تبدو مهمة مناقشة محتوى الفيلم لأنه قيل فيه الكثير... فهذه السيدة استحقت التقدير والاحترام طوال فترة اقامتها في مصر، والتي تمتد إلى أكثر من نصف قرن، وهي سجنت ثلاث مرات لأكثر من سبع سنوات بسبب نشاطاتها السياسية اليسارية. وماريا روزنتال، كما ظهرت في الفيلم، محدثة لطيفة ولبقة تعود الى جذورها بعد زيارة خاطفة إلى مسقط رأس أبيها اليهودي الإيطالي وزيارة مقبرة العائلة بالاستناد إلى تفاصيل حميمة قد «تغرق» فيلماً أو فيلمين، وهي تكسب تعاطف جيرانها ومعارفها من المصريين الذين طالما أحبوها وقدروها، وإن كانت تخشى عليهم «صدمة» معرفة أن لها أقارب في اسرائيل... وهي تستعد في أكثر من ثلثي الفيلم وتتأنق من اجل زيارتهم في تل أبيب، وهنا مربط الفرس كما يقال في هذا الفيلم. لقاء المرء بأهله بعد طول فراق يمتد لأكثر من نصف قرن شأن انساني صرف، ومن أبسط حقوق البشر في التواصل الذي يرفع من نبل المشاعر الإنسانية. ولكن هذا «الحق» يجب ألا تشوبه شائبة، خصوصاً إذا عرفنا أن الزيارة لُفقت على عجل بهدف تصوير مادة هذا الفيلم. موقف الأب سعد كامل، «الشيوعي الوحيد على وجه الكرة الأرضية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي يحمل روح الشيوعية بداخله»، كما يقدم نفسه إلى أحد أقارب زوجته روزنتال في تل أبيب، يكشف عن رؤية أخرى في الفيلم مناقضة لتوجهات الإبنة التي انصرفت إلى اقناع أمها بسهولة الزيارة، فيما أبدى كامل تبرماً وتردداً لافتين في القبول. ولا شك في أن «الثنائي» كامل وروزنتال عاشا حياة مديدة حافلة وسنوات صعبة زادت من التصاقهما بعضهما ببعض، ولكن ارغام الأب على الزيارة، كما يفهم من الفيلم نفسه، صنع هوة نفسية بين هذين الكائنين المتحدين، فقد ظهر في عدد من كادرات الفيلم متبرماً وغير متحمس أبداً لفكرة زيارة اسرائيل وهو في هذه السن، وبهذه المجانية التي لم يألفها، بخاصة أنه كان في وضع صحي صعب لا يسمح له أصلاً بتحمل مشقات السفر. ماريا روزنتال أدت واجبها بالكامل تجاه أهلها في مصر، وأهلها في تل ابيب في لقاء يتيم لم يكتب له أن يتحقق إلا بعد خمسين سنة، وهي تتمتع بكاريزما لافتة وبينة، وتقدمها في العمر لم يزدها إلا تألقاً وحساً انسانياً غامراً، وهي لم تخف تعاطفها مع الفلسطينيين من دون أن تقدم لنا المخرجة اقتراحات جديدة في هذا المجال سوى التأكيد على عقم مقاطعة اسرائيل التي لم تأت للعرب والفلسطينيين إلا بالضرر(...). بالطبع هذا أصبح كله معروفاً، وما هو غير معروف لبعضهم، ممن لم يشاهد الفيلم من قبل، هو أن كامل قدمت فيلمها بعنوان «سلطة بلدي» في مهرجانات سينمائية مختلفة، وها هي محطة «العربية» تعرضه تحت عنوان «عودة إلى الجذور». ولا نعرف ما إذا كان يجوز للمخرجة أن توحي عبر الفضاء هذه المرة بوجود فيلمين لها، بالتالي لا نعرف ما إذا كان تغيير اسم الفيلم يجيء من باب الترويج للنسخة المتلفزة بعدما خفت بريق النسخة التي اعتمدت في المهرجانات التي سافرت إليها، وقد تبدو العودة إلى الجذور مغرية تلفزيونياً وخادعة بعض الشيء، وإن كان الفيلم يحكي قصة سيدة عاشت في بلد شكل بالنسبة إليها وطنها الأول والأخير، فيما يعيش أهلها في دولة لا تجد ما تتفوق به إلا بالعنصرية والاستعلاء الأعمى على جيرانها. يمكن القول إن «سلطة بلدي» يحمل تأويلات أخرى لم تحسم بخصوص هوية روزنتال نفسها، فهي مزيج من هويات كثيرة تتداخل فيها اللغات العربية والعبرية والإيطالية والفرنسية، تبدأ من ايطاليا ولا تنتهي في اسرائيل مروراً بالطبع بمصر ومفردات العيش الطويل فيها، فيما يبدو أن «العودة إلى الجذور» هو نتيجة مرحلة لاحقة تجيء بعد وفاة الأب سعد كامل.