ربما سيكتب التاريخ أن القمة العربية الدورية التي تعقد في ليبيا نهاية آذار (مارس) الجاري، ستكون أيضاً أول قمة تشهد حالة برودة سياسية عربية منقطعة النظير، قياساً إلى القمم العربية السابقة التي شهدت جميعها زخماً إعلامياً وسياسياً سبق القمة ورافق عقدها واستمر قليلاً بعده. فمن ينظر إلى الكتابات الصحافية العربية عن تلك القمة، سيجد قدراً قليلاً جداً من التحليلات المتناظرة، وبما يشبه حالة عزوف جماعي توافقي ضمني يميل إلى اعتبار هذه القمة غير ذات شأن، أو أنها قمة عادية روتينية لن تنتج شيئاً يُصلح من أحوال العرب الآخذة في التدهور. والمؤكد هنا أن الترتيبات الليبية نفسها لم تجذب اهتمام الإعلاميين العرب، والذين يشك عدد كبير منهم في إمكان أن تفعل هذه القمة شيئاً متميزاً للقضايا العربية المعقدة والتي تنوء بحملها الجبال، فما بالك بعرب منقسمين على كل شيء، وحين يتفقون ولو لوهلة، يشعرون بنوع من الندم الطاغي. مشكلة أي قمة عربية سابقة لم تكن فقط في القضايا التي تُفرض عليها، او تلك التي تطمح الى معالجتها، بل كانت غالباً في الدولة التي ستستضيف هذه القمة وخريطة علاقاتها العربية في شكل عام، ومدى طموحها في جذب أكبر عدد ممكن من القيادات العربية وفى الخروج بقرارات فاعلة قابلة للتطبيق ومن دون تحفظات من أي طرف كان. وغالباً ما كانت تلك الدولة تسعى إلى احتواء خلافاتها مع الأطراف العربية الأخرى إن وجدت، لا سيما الفاعلة منها، بغية تأمين النصاب المناسب من القادة العرب، وبالتالي قدر من الفاعلية النسبية لمجمل أعمال القمة. ومع اعترافنا بأن طموح ليبيا في أن تكون القمة العربية الأولى لديها حدثاً فارقاً، وأن تبلور قراراتها قطيعة سياسية مع قرارات القمم السابقة التي لم يُنجز منها سوى القليل النادر، وأن يُؤرخ بها لمرحلة عربية جديدة قوامها التضامن والتعاون والشراكة الاستراتيجية في مواجهة تحديات الأمة، إلا أن هذه الطموحات وحدها لا تكفي لإنجاز أي شيء ذي معنى، فثمة دور كبير لدولة عقد القمة في تجهيز الملفات بالتنسيق مع الأمانة العامة للجامعة، والتواصل مع كل الدول بالقدر نفسه من الحماس للتوصل إلى خطوط عريضة للقرارات التي يُفضل أن تصدر عن القمة. واللافت للنظر هنا أن ليبيا لم تقم بما يكفي ويتناسب مع مسؤولية قيادة العمل العربي المشترك لمدة عام كامل، فثمة غموض في مواقف ليبية كثيرة، أو على الأقل التباس في تلك المواقف من شأنه أن يجعل كل شيء بمثابة مفاجأة كبرى ربما تحدث في إعمال القمة وتأخذ وقتها من الإبهار الإعلامي، ثم ينزوي بريقها بعد ذلك وإلى الأبد. والناظر إلى خريطة التفاعلات الليبية في الأشهر القليلة الماضية يجد قائمة أولويات لا علاقة لها في الشأن العربي العام، فهناك اشتباك ليبي مع سويسرا على خلفية نزاع له طابع شخصي يخص أحد أبناء القذافي، ولكنه تحول إلى قضية تمس العلاقات الليبية - السويسرية برمتها، بل أراد العقيد القذافي بدعوته إلى ما أسماه الجهاد ضد سويسرا، التي وصفها أوصافاً قاسية أمام جمع ضم عرباً وأفارقة، أن تمس كامل العلاقات العربية والإسلامية بسويسرا، وهو ما لم يجد صدى لا عربي ولا إسلامي. اشتباك آخر مع نيجيريا التي دعا العقيد القذافي إلى تقسيمها إلى بلدين، أحدهما للمسلمين وآخر للمسيحيين، باعتبار ان التقسيم سيحمي حياة كل طرف من اعتداءات الطرف الآخر، وهو ما أدخل علاقات نيجيريا مع ليبيا في دائرة التوتر السياسي والإعلامي. أما الاشتباكان العربيان اللذان انغمست فيهما ليبيا أخيراً، فتعلق أحدهما بمشاركة لبنان في القمة وعلى أي مستوى، خاصة بعد الخطأ البروتوكولي الذي وقع فيه سفيرها في سورية حين حاول تقديم الدعوة إلى لبنان عبر سفيرها في دمشق وليس عبر الطرق المعتادة المعمول بها في الجامعة العربية والأعراف السابقة. والاشتباك الثاني مع الرئيس محمود عباس الذي ربط مشاركته في القمة بتصحيح موقف العقيد القذافي من زيارة سابقة له إلى طرابلس لم يستقبله خلالها العقيد، نظراً لعدم قبول محمود عباس اقتراح أن تستضيف ليبيا توقيع وثيقة المصالحة التي توصلت إليها مصر بين السلطة وحركة «حماس» في ليبيا نفسها، وتفضيله ان تكون مصر هي مكان التوقيع ولمتابعة التطبيق لاحقاً. وكلا الاشتباكين كان محلاً للتدخل الشخصي من قبل عمرو موسى، الذي يتطلع بدوره إلى قمة آمنة بلا مفاجأت تطيح بها، على رغم علمه تماماً كما هو علمنا ايضاً أن لا سلوك مضموناً تماماً في بعض المواقع ذات الخصوصية، كما هو الوضع في ليبيا. الاشتباكات الأربعة قبل أيام معدودة من القمة تعكس طبيعة أداء السياسة الليبية بوجه عام، حيث تعتبر القضايا الأفريقية ذات أولوية قياساً بالقضايا العربية، وقصة بناء فضاء أفريقي بديل عن الفضاء العربي معروفة المعالم وواضحة الدلالات. كما تعكس طبيعة الأزمات التي تشتبك فيها ليبيا وتريد مساندة العالم العربي فيها من دون أن تكون له أية مصلحة في تلك الاشتباكات الفردية. فما مصلحة العرب مثلاً في معاداة سويسرا استناداً إلى مصالح فردية تتعلق بابن أحد القادة؟ وتعكس ثالثاً رغبة في التمايز عبر اتخاذ مواقف تبدو في نظر كثيرين بلا أسس موضوعية وبلا جذور في الواقع. هذه النوعية من الاشتباكات السياسية والديبلوماسية والإعلامية ليست الوحيدة، فهناك تلاسن عابر بين ليبيا وجيبوتي على خلفية اقتناع الأخيرة بأن ليبيا تساند إريتريا على حساب المصالح الجيبوتية. لكن ايضاً، وللإنصاف واكتمال الصورة، هناك اهتمام ليبي بالوضع في دارفور والعلاقات التشادية السودانية ومجريات الأمور في مالي ودول الساحل والصحراء. هكذا، فإن أهمية الترتيبات اللوجيستية والُبعد عن المناكفات والعمل بتوازنات حساسة ودقيقة للغاية هو الذي يضفي قدراً من الأهمية على القمة ويجذب اهتمام الرأي العام العربي. أما المواضيع والقضايا المثارة فهي الأصل في تحديد أهمية قمة عربية عن قمة أخرى، وذلك في حالة اتخذت القمة موقفاً حاسماً وتاريخياً في شأن يهم العرب جميعاً. وبالنسبة الى النظام العربي فلا تمر لحظة إلا ويظهر أن كل القضايا هي على نفس القدر من الأهمية سواء بالنسبة الى الأمن العربي أو التضامن العربي أو العلاقة مع الآخر أو لصد هجمات وتحديات غير محسوبة تأتي من هنا وهناك. وبالتالي لا بد نظرياً على الأقل من أن يكون لكل القمم العربية القدر نفسه من الأهمية. والسؤال لماذا لم تظهر أهمية القمة المقبلة في ليبيا حتى قبل أيام معدودة من عقدها، على رغم طول قائمة القضايا والتحديات البالغة الأهمية؟ هناك قطعاً إجابات عدة على هذا السؤال، منها، إلى جانب مسؤولية دولة عقد القمة كما سبق القول، تراث القمم العربية نفسه والذي يعتقد الرأي العام العربي انه تراث من الفشل وغياب الفاعلية. وحسب استطلاع أعلن عن نتائجه في باريس قبل أيام قليلة مركز الدراسات العربي الأوروبي، فإن 85.2 في المئة من الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون ان نتائج القمة العربية في ليبيا «لن تكون بمستوى ما يعصف بالعالم العربي اليوم من تحديات»، وان 11.5 في المئة يرون أن القمة قد تخرج بقرارات تفيد في تصحيح الأوضاع العربية على رغم صعوبة الظروف، ورأى 3.3 في المئة أن المهم هو تنفيذ القرارات التي تتخذها القمة. وعلى رغم أن هذا الاستطلاع جاء على عينة محدودة جداً، فإنه يعكس تقييم الرأي العام العربي ليس للقمة العربية في ليبيا فقط بل لمعظم القمم العربية السابقة، وهو الذي يفيد بأن هذه القمم لم تؤثر كثيراً في مواجهة التحديات العربية الكبرى. والأدلة كثيرة، بداية من سلسلة التعثرات والتراجعات التي تشهدها القضية الفلسطينية طوال العقود الستة الماضية، وغموض الموقف العربي من المبادرة العربية للسلام وانهيار منظومة الأمن العربي الجماعي، والتفكك الشديد الذي يشهده النظام العربي، والاختراقات الأمنية والسياسية التي تتعرض لها معظم البلدان العربية منفردة ولا تجد الدعم الكافي أو المناسب من النظام العربي. مع ضرورة الاستطراد، أن كثيراً من الدول العربية لا تفضل تدخلات النظام العربي في أمور ترى أنها من صميم شؤونها الداخلية، حتى لو تضمنت مواجهات واسعة المدى مع قوى خارجية أو أخرى محلية ذات امتدادات خارجية بدرجة ما. فضلاً عن صعود كبير لأدوار قوى اقليمية مجاورة يؤثر على صورة النظام العربي لدى الرأي العام العربي كما يؤثر على حالة النظام الفعلية. إنها قمة عربية أخرى، ستوضع قراراتها في ملف أنيق يرجع إليه الباحثون والدارسون والإعلاميون، ولا بأس في ذلك، فهذا حال قرارات القمم العربية السابقة. وحين تصبح تلك القرارات المتوقع صدورها عن القمة المقبلة في ليبيا معياراً للحكم على المواقف وتوجيه الاستراتيجيات الجماعية العربية ولو بعد حين، يمكن بعدها القول إن هذه القمة كانت خطاً فاصلاً بين فشل معتاد، ونجاح غير مسبوق، وإن كنت شخصياً لا أجد أي مؤشر يدعم مثل هذا الاستنتاج. * كاتب مصري