«ديوان المواجع» (دار ضحى) هي الرواية التاسعة للكاتب والأكاديمي التونسي محمد الباردي، وفيها تتجلّى مدينة «الجنوبية»- التي تُحيلُ على مدينة قابس الواقعة في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية، وهي مسقط رأس الكاتب- فضاءً مكانياً امتدّت الأحداثُ فيه من بداية القرن العشرين إلى ما بعد ثورة 14 كانون الثاني (يناير) 2011. وقد توزّعت هذه الرواية البوليفونية على سبعة أبواب سمّاها المؤلِّفُ كُتُباً، هي على التوالي: «عاشق البحر» و«غزالة» و«ديكان وحبة قمح» و«ريم الدهماني تمارس حرّيتها» و«اعترافات خيرالدين الجمني» و«نور» و«كاتبُ السيرة يُحيِّن أوراقه». تخترق هذه الكتبُ نسيجَ الرواية عمودياً، ليُخبر كلّ واحد منها عن حكاية شخصية من شخصياتها، وتتضافر أفقياً لتُنبئَ بالمَحكيِّ العامِّ الذي سعى فيه الكاتب إلى تفكيك كثير من قضايا الواقع التونسي الاجتماعية والسياسية والثقافية وإبراز موقفه منها بنَفَسٍ سرديّ ملحميّ. تنحو رواية «ديوان المواجع» صوب أن تكون مُدوَّنة حكائية لأربعة أجيال، انتشرت في طيّاتها عدوى الحبّ وعدوى الجاه وعدوى الحيرة وعدوى الدروشة، ما جعل مصائرَ شخصياتها محكومة بالتناقضات، ومليئة بالمفاجآت، وكثيرة الوجع. ذلك أنّ الرواية تترحّل بقارئها من زمنه الراهن إلى تفاصيل تاريخ تونس المعاصر وتكشف له عن كثير ممّا ظلّ قابعاً منه في خانة المسكوت عنه اجتماعياً وسياسياً، دون أن تقع في مهاوي تسجيلية الأحداث والتأريخ لها. وما كان لهذه الرواية أن تفعل ذلك لولا مهارتها في تضفير الوقائع تضفيراً فنياً لا تكتفي منه بتسريد الحدث التاريخي المرجَعيّ فحسب وإنما تبحث في ظلاله الوجدانية لدى مجتمع السرد وفي طبيعة تمثُّلاته له وما يكون لها من تأثير في تشابك علائق الأفراد الذين تحولوا إلى جسد جماعي يتحرّك على مدى قرن، وتخترقه سهام تواريخ شتّى أوردتها الرواية ضمن ثنائيات لعلّ من أبرزها تاريخ الأسياد وتاريخ الخدم، وتاريخ الذكور وتاريخ الإناث، وتاريخ الاستعمار وتاريخ الاستقلال، وتاريخ بورقيبة وتاريخ معارضيه من اليوسفيين والعَلمانيين وحركة «الإخوان المسلمين»، وتاريخ الدكتاتورية وتاريخ الحرية، وتاريخ الدنيا وتاريخ الدّين. تبدأ رواية «ديوان المواجع» بحكاية «الشيخ عبّاس» ذي الحظوة الاجتماعية التي خوّلها له تاريخه الشخصيّ وثراؤه الماديّ، ذلك أنه نحت كيانه الاجتماعيّ بجهده الخاص وحصّل ثروة كبيرة امتدّت برّاً وبحراً، وهو ما شرّع له أن يتزوّج أربعَ نساء آخرهنّ «لَلاَّ زهرة»، الفتاة الجميلة التي أنجبت له طفليْن هما عثمان وشكري، وبنتاً تسمّى «سلمى» بعدما فشلت نساؤه السابقات في تمكينه من نسل يصون ثروتَه وتاريخَه. إنها حكاية تتصل في كثير من أحوالها بحكاية خادمه «مرزوق» الهارب من قريته الفقيرة باتجاه مدينة «الجنوبية» على أمل أن يضمن فيها عيشاً ممكناً، حيث عمل لدى أحد باعة الحلويات الذي فرّط فيه للشيخ عبّاس مقابل بعض صناديق الدَّقيق ليكون عنده خازن أسراره ورئيسَ خَدَمِه، ثم هو يُزوّجه إحدى خادمات «للاّ زهرة» المسمّاة «زينب» ليُنجب منها ابنتَه «مريم». وبعد تنامي نفوذ الشيخ عبّاس في وسطه الاجتماعي، ألمّت به حادثة غيّرت مجرى حياته، وجعلته يرتقي من منزلته الدنيوية إلى مرقى القدّيسين والأولياء الصالحين، وذلك بعد أن تعرّض إلى أزمة صحيّة أدّت إلى وفاته، ولمّا كان الناس يشيّعون جثمانه إلى المقبرة عادت إليه الحياة فجأة، وأخرج يديه من الكفن، ما أخاف الناس وحفزهم على الهرب، ولم يبق معه إلا خادمه مرزوق الذي عاد به إلى بيته. بعد حصول هذه الحادثة، صار الشيخ عباس لا يبرح غرفته، وأمر بوقف نصف أملاكه على الفقراء والمساكين ووزّع النصف الباقي على أبنائه وزوجاته، وعكف في بيته يصلّي ويلبس الخيش، فلا يأكل إلا ما يسدّ رمقه ولا يرى أحداً سوى مرزوق. وأمر بأن يُحفر قبره في تلك الغرفة، وأن لا يُبكى عليه عند موته ولا يسمع به الناس إلا بعد أربعين يوماً. وقد تحوّلت غرفة الشيخ عباس بعد موته إلى مزار يُسمّى مقام «سيدي عبّاس» يُشرف على إدارته الخادم مرزوق ثم من بعده زوجته ثم ابنته، ويقصده الناس لطلب العون والبركة إيماناً منهم بعظيم كراماته، إذ هو يخرج لهم ليلاً ويخاطب بعهضم ويدعوهم إلى الخير ويساعدهم في حلّ ما اعتاص عليهم من مشكلات. وعلى عكس الشيخ عبّاس، استهوت السياسة ابنيْه عثمان وشكري، فانخرطا في لعبتها ومكرها، الأوّل آمن بأفكار المناضل صالح بن يوسف، والثاني مال إلى بورقيبة. وبقدر ما اختلف هذان الزعيمان على طبيعة التعامل مع المستعمر الفرنسي بغية تحقيق الاستقلال، اختلف ابنا الشيخ عبّاس حول وجاهة رأي كلٍّ من هذيْن الزعيميْن، فكانت بينهما حربٌ أدّت إلى سجن عثمان ثم مقتله في ضريح والده. وهي أحداث عجّلت بخلخلة سكينة عائلة الشيخ عباس واستمرّ تأثيرُها في تشعّب سيرة أحفاده التي حفلت بحكايات الحبّ والخيانة والهزيمة والوجع، بخاصة عبر شخصيتَي حفيده خيرالدين الجمني وريم حفيدة خادمه مرزوق. اتخذت الرواية من «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ خلفيّة فنيّة تماهت بها في صوغ حكايتها من حيث طبيعةُ الأبطال ومن حيث نهاياتُهم، ذلك أنّ ملامح شخصية الشيخ عبّاس مُحيلة على ملامح شخصية «الجبلاوي» في زهدها وكراماتها واستمرار فاعليتها في تحديد مصائر أحفادها بعد موتها. وتأتي خصومة «عثمان» و«شكري»، ابنَي الشيخ عباس، مُحيلة بدورها على العداوة التي كانت بين ابنَي الجبلاوي «أدهم» وإدريس». ثم إن رواية الباردي لا تُخفي الشبه الكبير لمصائر أبطالها بمصائر أبطال «أولاد حارتنا»، وذلك من جهة ما يكتنف مسيرتهم من ترحّل شاق في أرض السرد واحتياجهم إلى قوّة «الوليّ» وكراماته، ليملأ ما في كياناتهم من فراغ قِيَميّ سبّبه لهم جوعُهم إلى متاع الدنيا، ما جعل غالبية شخصيات هذه الرواية تنتهي إلى حال من الدروشة، على غرار حال زينب زوجة مرزوق. ويبدو أنّ وعي محمد الباردي بتعقّد وقائع روايته وكثرة شخصياتها وطول المدى الزمني لأحداثها، حفزه على تذكير القارئ في كلّ مرّة بما مرّ معه من أحداث في شكل خلاصات قصيرة، ولا نعدم في استعمال هذه التقنية حقيقة أنها مثّلت عنصراً مساعداً للرواية على حسن تلقّيها من قارئها وعاملاً من عوامل توهّج حكاياتها.