«الصمت والصدى» هو عنوان الفيلم الوثائقي الثاني الذي عرضته فضائية «الجزيرة» من إنتاجها للرباعي المصري: محمد حربي (سيناريو) ومها شهبة (إخراج) وزينب عبد الرازق (بحث وإعداد ومساعدة إخراج) ومحب محسن (مونتاج). وكانت عرضت للفريق نفسه، من غير إنتاجها، «جيفارا عاش» الذي فاز بجائزة الصقر الفضي (الثانية) للأفلام الوثائقية في مهرجان روتردام الماضي. وستعرِض القناة بعد أسابيع، من إنتاجها وللرباعي نفسه، «ثرثرة فوق البحر»، وهو فانتازيا وثائقية عن غرق «عبارة السلام 98» في شباط (فبراير) 2006. يقوم الفيلم، كما يقول كاتب السيناريو محمد حربي ل«الحياة» على تقاطع أربعة أفلام مفترضة، إذ يُسأل فيه أربعة مخرجين عما يمكن أن يقوموا به فنياً لو قيّض لهم إنجاز فيلم عن الحادث الذي يعدّ من أبرز كوارث الفساد في مصر. والمخرجون هم: خيري بشارة وأسماء البكري ووحيد حامد وخالد يوسف. وينشط الفريق الرباعي في إنجاز أفلام تسجيلية، تسلط الضوء في معظمها على وقائع تتصل بالهموم المصرية، ويركّز بعضها على البعدين العربي والفلسطيني في مسار مصر، انطلاقاً من التشديد على اتصال الشأن المصري بالفضاء العربي. وفي هذا السياق، انتهى الفريق من إنجاز فيلم «لموا الكراريس...» الذي يستوحي اسمَه من أغنية شادية التي ذاعت بعد عدوان إسرائيلي في نيسان (أبريل) 1970 على مدرسة بحر البقر في مصر، حيث استشهد 30 تلميذاً ومدنيون آخرون. ويصل الفيلم تلك الجريمة بمثيلتها على مدرسة الفاخورة الفلسطينية أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 2009، حيث استشهد 43 تلميذاً. يوضح حربي، وهو صحافي مقيم في دبي أن اهتماماً لديه بالسينما التسجيلية تطور إلى أن ينخرط في كتابة سيناريوات أفلام، هي الآن قيد الإعداد والتنفيذ، بعد لقاء مع زميلته في الصحافة المخرجة مها شهبة، تحدّثا فيه عن أفلام قصيرة أنجزتها، منها «عدّى النهار» عن الأسرى المصريين في حرب 1967، ثم كانت أولى التجارب المشتركة في «جيفارا عاش». ويقول إنهما يتفقان أولاً على الفكرة ثم على صوغ تصور لمشهدية معينة، ويتواصل حوار بينهما قد تتداخل فيه وظائف المخرج والكاتب. ويعدّ «الصمت والصدى» فيلماً نوعياً للفريق، على صعيد مزاوجة الفكرة الأساسية التي يقوم عليها الفيلم مع دلالات خاصة في اختيار لقطات من الأرشيف ذات إشارات جوهرية، والفكرة هي خواء السلام الذي ذهب إليه الرئيس الراحل أنور السادات. ويعتني الفيلم في الوقت ذاته بتأكيد قدرة مصر وجيشها على إحراز نصر عسكري، كما في تشرين الأول (أكتوبر) 1973، والبناء عليه لو توافرت الإرادة لدى القيادة السياسية. والدلالات الرمزية كبيرة في اتكاء «الصمت والصدى» في نحو 50 دقيقة على مشوار بالميكروباص في القاهرة، يقوم به محارب قديم شارك في حرب أكتوبر من مدينة (ضاحية) 6 أكتوبر إلى مدينة السلام التي بناها السادات بهدف التذكير الدائم بالسلام الذي أنجزه، ثم صارت حيّاً للعشوائيات، فيه نسب عالية للجريمة، ولا تحمل من اسمها شيئاً، فيما «6 أكتوبر» تنعم بالهدوء وبمظاهر من الرقي، حيث تقطنها شرائح بورجوازية إلى حدّ ما. ومن المفارقات الكاشفة أيضاً أن المحارب القديم، والذي كان في حرب أكتوبر أحد أبطال كتيبة عرفت باصطيادها دبابات للجيش الإسرائيلي، وكرمه السادات، يعمل الآن وكيلاً لراقصة في الاسكندرية. يهجس محمد حربي ومها شهبة وزملاؤهما في أعمالهم بحماية الذاكرة المصرية، والعربية طبعاً، بالالتفات إلى منسيين في التاريخ الدعائي والإعلام الرسمي، لهم موقعهم في مسار الرفض الشعبي المديد لسياسات رسمية مسؤولة عن خراب ظاهر في مصر على غير صعيد. ويُبرز «الصمت والصدى» أن المقاومة المصرية الشعبية ضد السلام البائس مستمرة وإن تبدو صامتة، ذلك أن أصداءها متواصلة منذ احتجز الشاب الفلاح سعد حلاوة في شباط (فبراير) 1980 موظفين محليين في قريته كرهائن يوم تسليم أول سفير إسرائيلي في القاهرة أوراق اعتماده، وأعلن أنه إنما يحتجّ على وجود سفير لإسرائيل في مصر، وأنه لا يريد إيذاء أحد، غير أن الشرطة تمكّنت منه وقتلته. ويذكّر الفيلم بوقائع استهداف ديبلوماسيين إسرائيليين في القاهرة، ويربط ذلك كله بأشكال مستجدّة من الرفض لاتفاق تصدير الغاز المصري الى إسرائيل. وبين لقطات من أرشيف، بعضها الآن مهمل، لأنور السادات يمشي مزهواً أو يتضاحك مع غولدا مائير أو يبشّر بعوائد السلام من بلايين الدولارات، وبين تقطيعات بصرية لغروب الشمس عن أبو الهول، وأخرى تؤشر إلى انشغال ملايين المصريين برغيف الخبز... بين هذا كله وسواه، يتحدّث في الفيلم جمال الغيطاني عن نصر عسكري في أكتوبر 1973 كانت ثماره السياسية ضئيلة، ويتحدّث المسؤول السابق في الاستخبارات فؤاد هويدي عن خطر صار على الأمن القومي المصري بعد معاهدة السلام. وبين ضيوف آخرين، منهم المناصر للسادات وخياراته عبد المنعم سعيد، نستمع إلى تسجيل صوتي لجدال نادر، وشديد الأهمية في سياقات راهنة وماضية، بين قيادي إخواني راهن وأنور السادات. ليس «الصمت والصدى» فيلماً توثيقياً، يكتفي باستعادة وقائع من الماضي والحاضر، بل هو أشبه بتعبير وجداني عن مسار غير قصير لأحلام خائبة ورهانات بائسة ومآلات صادمة. وهو أيضاً محاولة بصريّة جادّة، على مقدار من الحرفية في المونتاج وتوظيف الوثيقة التلفزيونية، تعبُر إلى تفاصيل نفسية في ذاكرة من عايشوا حربي الاستنزاف وأكتوبر وعملية السلام المديدة منذ مبادرة السادات مروراً باتفاق أوسلو وسواه. وإلى مشاغله الوطنية الظاهرة، يتوافر الفيلم على حذاقة في البحث والإعداد وتوليف الصور والوثائق، وعلى إيحاءات عميقة فيه، دلّت عليها الجماليات البصرية، على قلتها. وإذ يعدّ منجزاً جديداً لشبان مصريين نشيطين، فإنه ينجح في حض مشاهديه على ترقب جديدهم، غير القليل، كما قال كاتب السيناريو محمد حربي.