عقب ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011 تشكَّل في مصر برلمان من غالبية إخوانية وسلفية قاربت حدّ الثلثين. بالطبع كانت تشكيلة كارثية حملت أخطاراً جمة على مستقبل الدولة المدنية، وأنذرت بأمور تحققت سريعاً مع انتخاب رئيس إخواني استفردت جماعته بالسلطة، واستخدمتها في العبث بمؤسسات الدولة، ما أنتج وضعاً أفضى إلى الخروج الشعبي على الجماعة في 30 حزيران (يونيو) 2013، وتدخل الجيش لإسقاط حكمهم ووضع خطة طريق جديدة للمستقبل في الثالث من تموز (يوليو)، من العام نفسه، أفضت إلى صعود عبدالفتاح السيسي إلى سدة الحكم. كانت السيطرة الإسلامية إذاً على برلمان 2011 هي المثلب الرئيس، ولكن معظم المؤشرات الأخرى من تعددية في القوى المتنافسة، واتساع درجة المشاركة السياسية ترشيحاً وتصويتاً، وارتفاع حدة المنافسة، ونزاهة العملية الانتخابية، كانت جميعها قائمة بامتياز. أما انتخابات 2015 فنمّت عن وضع معكوس تماماً، إذ خلت تقريباً من السلبية الرئيسية لسابقتها، ولكنها افتقرت إلى جلّ ميزاتها على صعيدي المشاركة والتنافسية. والواقع أن حكم الرئيس السيسي لم يكن مرجحاً له أن يكون ديموقراطياً ليبرالياً لأسباب تتعلق بملابسات اللحظة الدرامية التي صاحبت صعوده إلى السلطة وما يحوطها من مشاغبات إخوانية في مختلف أرجاء مصر، وعنف إرهابي في سيناء. لكن يؤمل أن يكون مرحلة إنتقال بالمعنى التاريخي العميق بين نظامي حكم حسني مبارك الأمني الإستبدادي الفاسد، الذي سقط في 25 كانون الثاني، وبين نظام ديموقراطي حقيقي مرجو لشعب دفع للحرية مهراً كبيراً من دمائه وأمانه عبر ثورتين وأربع سنوات من الإضطراب. معنى الإنتقال التاريخي أن لا تنتسب ملامحه إلى بنية نظام الحكم القديم، لا إلى القوى الإجتماعية التي كانت نافذة فيه، ولا إلى الهيكلة السياسية الأحادية له، والتي تجعله طارداً لكل اختلاف إيديولوجي، وتعددية حزبية، ولا حتى إلى الثقافة المغلقة التي نشأ عليها في الستين عاماً الماضية، فإذا ما خلا من تلك الثلاثية القديمة: البنية الإجتماعية الظالمة، والبنية السلطوية الأحادية، والبنية الثقافية المغلقة، صار نظاماً انتقالياً بالمعنى التاريخي العميق، يؤسس لنظام ومجتمع جديدين وليس بالمعنى السياسي الضحل الذي يدير المجتمع القديم بالآليات المتبعة نفسها لفترة قصيرة انتظاراً لما سيلي بعدها، على النحو الذي شهدناه في فترة حكم المجلس العسكري بين سقوط مبارك وتولي الرئيس الإخواني محمد مرسي، وهي فترة تيه فكري وانتظار سياسي. ثم في عام حكم الرئيس الموقت عدلي منصور الذي شهد استقطاباً شديداً، وعنفاً طاغياً بتنويعات مختلفة. اقتباس غير أن ذلك الفارق المفترض (نظرياً) بين النظام الحالي وبين المرحلتين الإنتقاليتين لم يتبلور (عملياً) حتى الآن، بفعل رغبة دائرة الحكم حول الرئيس السيسي (لم تتبلور في نظام بعد) في الإقتباس من التجربة الناصرية، خصوصاً تلك الصفقة التي كانت متكافئة في الخمسينات، ولم تعد كذلك الآن، وأعني بها المبادلة بين دولة الرعاية الإجتماعية، والإستبداد السياسي. لم تقم دولة الرعاية الناصرية على الوفرة الصناعية التي عرفتها الدول الاشتراكية الديموقراطية في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، ولا على الوفرة الريعية التي تعرفها دول الخليج العربية، بل تأسست على «عدالة جذرية» تمثّلت في انحياز واضح إلى تحالف العمال والفلاحين، بإصدار مجموعة القوانين الخاصة بالإصلاح الزراعي، والعلاقة بين المُلاك والمستأجرين التي أعادت توزيع الأرض والثروة في مصر، ناهيك بقوانين التأميم التي وسّعت حجم القطاع العام، والقوانين الإشتراكية التي صدرت بعد ذلك لصالح الطبقة العمالية. كما تأسس الإستبداد الناصري على نزعة شعبوية، وظفت الكاريزما الشخصية، والتأييد الواسع للرئيس في إضعاف النخبة السياسية، وتعويق بناء نظام حزبي متوازن، فعّال وراسخ، قادر على القيادة عبر الحوار والتفاوض والمساومة. اليوم، يسعى الحكم القائم إلى إعادة إنتاج تلك الصفقة تعويلاً على صيغة المشاريع الكبرى لكسب العقول والقلوب، على النحو الذي حصل عند افتتاح فرع قناة السويس 2015، مع تحميل الحدث بالمضامين الرمزية لتأميم القناة القديمة عام 1956، أو افتتاح السد العالي عام 1969، بهدف توظيفه مدخلاً لاستعادة الهيمنة الأبوية على الجماعة المصرية، وهي صفقة مستحيلة بحكم التاريخ ومنطقه. ذلك أن السياق الذي جاء فيه الرجلان يبدو مختلفاً بين حقبة تحرر قومي كان ناصر فرزاً طبيعياً لها، وكانت الديموقراطية فيها فكرة رجعية، فيما الشمولية (الإشتراكية والشيوعية) هي الصيغة الأكثر تقدمية في أنحاء العالم. كما كانت صور تشي غيفارا وفيدل كاسترو هي الأكثر حضوراً على صدور شباب ذلك الزمان. وكذلك كان عموم المصريين الخارجين من عباءة الحكم الملكي، ومن ربقة السيطرة الاستعمارية سلسي الانقياد، ولم يكن المطلب الديموقراطي هماً حقيقياً لهم. أما صعود السيسي إلى سدة الحكم، فأتى على خلفية ثورة حقيقية، عبّرت عن نفسها في موجتين كبريين اقتلعت إحداهما الإستبداد العلماني الفاسد، وتصدت الأخرى للإستبداد الديني الرجعي، ما يجعل الديموقراطية مطلباً حقيقياً يضع حدوداً لحجم الإقتباس الممكن من التجربة الناصرية. ولعل المشكلة الكبرى في مصر اليوم لا تكمن في حجم الإقتباس، بل في سوء الإقتباس، من تجربة عبدالناصر الواسعة، حيث يخفت كثيراً إيقاع الحركة على طريق العدالة الإجتماعية، ويجري تحميل أعباء عملية الإصلاح للطبقات الوسطى والدنيا، خصوصاً عبر زيادة أسعار الكهرباء والمحروقات، وفرض ضريبة جديدة على القيمة المضافة، وفي المقابل التخلي عن ضريبة الأغنياء (5 في المئة) لمن يزيد دخله على مليون جنيه في العام، وهي ضريبة صغيرة من الأصل خصوصاً إذا علمنا أن شريحة الضريبة الأعلى في مصر الآن 22,5 في المئة بينما تزيد في بعض البلدان الغربية على 5 في المئة. كما تم التخلي، عن ضريبة الأرباح الرأسمالية البورصة المقدرة ب 10 في المئة فعلياً، وإن في صيغة رسمية تقول بتأجيلها لمدة سنتين، تحت ضغط العاملين والمستثمرين فيها، وبذريعة أنها ستعوق مناخ الإستثمار. وفي المقابل، يزداد إيقاع الحركة على طريق النزعة الشعبوية، الأكثر سوءاً في التجربة الناصرية، حيث يتم توظيف الكاريزما الشخصية، والتأييد الواسع للرئيس في إضعاف النخبة السياسية، وحصار البناء الحزبي، وتعويق التعددية السياسية والتحول الديموقراطي، تعويلاً على العلاقة الخاصة مع الجماهير، وهو الأمر الذي يؤخر عملية بناء نظام حزبي متوازن، تعددي وتنافسي، لكنه فعّال وراسخ، يستند إلى نخبة سياسية جادة، قادرة على القيادة عبر الحوار والتفاوض والمساومة، على نحو يقتلع صولجان الحكم من أيدي الأجهزة البيروقراطية والعسكرية التي لا تزال تتحكم به في ظل الضعف الشديد للبديل المدني. إعادة تنظيم تلك العملية كانت في حاجة إلى إعادة تنظيم التحالفات الحزبية على قاعدة التوافق الأيديولوجي بين التيارات الفكرية والسياسية الأربعة الكبرى في التاريخ السياسي المصري وهي: الليبرالي، واليساري، والقومي الناصري، والإسلامي، والتي يمكنها النهوض بمهمات الحوار والتفاوض والتساوم، على نحو يعيد الاعتبار إلى مفهومي السياسة والنخبة معاً، ولو على نحو تدريجي. ولكن الوقائع المحيطة بالبرلمان تدل على أن الدولة المصرية اختارت البديل النقيض وهو الإجهاز على النخبة والسياسة معاً، وهو الخيار الذي كشفته قوانين الانتخابات على صعيدين أساسيين. الأول يتعلق بهيمنة طريقة الانتخاب الفردي، بنسبة 80 في المئة مقابل 20 في المئة للقائمة. فالمعروف أن نظام الانتخاب بالقائمة أصلاً لتقوية الدور السياسي للأحزاب باعتبارها الوحدات الأساسية للتنافس على السلطة، فهذا التنافس لا يمكن تصوره حقيقياً أو مجدياً إلا بين أفكار ورؤى إيديولوجية، وبين توجهات تحتضنها تنظيمات سياسية، من دونها يتوقف الحوار المجتمعي، أو يتعثر، إذ لا يُتصور قيام حوار فعال بين خمسمئة شخص مختلفي التوجه. وأما الثاني فيتعلق بالنزعة الإقصائية، الكامنة في نظام القائمة المطلقة وليس النسبية. والبادي أن العقلية الإقصائية التي أنتجت فكرة القائمة المطلقة، هي نفسها التي كانت روّجت لفكرة بناء جبهة وطنية أو ظهير سياسي لدعم الرئيس بعد انتخابه مباشرة، خصوصاً أن رموزها جميعاً من رجال الدولة السابقين، وبعضهم يأتي من خلفية المؤسسات الأمنية المركزية في النظام الذي سقط أمام ثورة 25 كانون الثاني. وبدلاً من الصخب السياسي الذي قد تمارسه المعارضة، فإن عقلاء الدولة ورجالها، العارفين لمصلحة الوطن، والمتفهمين لضرورات الأمن القومي جاهزون بطقوس التأييد والدعم والتمكين، من دون حوار أو اختلاف أو مشاحنات معطلة، حتى لو تعلق الأمر بتعديل الدستور لزيادة سلطات الرئيس، خشية نشوء كتلة معارضة معطلة له، على حساب سلطات البرلمان. وهكذا تموت السياسة على مذبح الأمن والإدارة، ويعاد إنتاج تلك الصفقة المحرمة التي أوصلت مصر سلفاً إلى الطريق المسدود. * كاتب مصري