محمد قناوي اسم مصري لا شك سيتنبه إليه المعنيون بصناعة الفيلم الوثائقي والمتابعون لهذه الصناعة. فهو واحد من صُناع الأفلام المصريين المقيمين في أوروبا، حيث يمتاز بكونه يُحيط أعماله بجوّ من الصمت، مفضلاً عدم إثارة الضجيج من حوله ليعمل على صنع أفلامه في حال من الهدوء والتأني، تاركاً أعماله تتكلم عنه، ويؤكد أنه كصانع أفلام يكترث بمنطقة مختلفة في صناعة الفيلم الوثائقي، مكتفياً بأن يكتشف أوروبا بعين جديدة. بعد ما قدم قناوي من قبل فيلمه السابق عن تشاوسيسكو وشبح الاستبداد المخيم على رومانيا بعد مرور نحو عشرين عاماً على الثورة هناك، يأتي الآن مجدداً ليكتشف أوروبا ولكن ليركز هذه المرة على علاقة التأثر والتأثير بين الشرق والغرب. والحال أن المهووسين بالثقافة العربية والتأثير الإسلامي على الغرب سيجدون في فيلم «منيرة منيدونسا» ضالتهم، حيث يبدأ من مدينة غرناطة بإسبانيا، معقل المسلمين والعرب لقرون طويلة، قبل أن تزول دولة الأندلس. وهكذا انطلاقاً من لقطات واسعة كاشفة للعمارة الإسلامية، ووضوح الشكل العربي للمدينة، سوف تنتقل الكاميرا إلى لقطات أكثر قرباً ليد تدق، وبداية عمل في الحفر يقودنا لاكتشاف الفنانة منيرة منيدونسا. وبسرعة سوف تتوالى الاختيارات الجمالية لأماكن التصوير لتكشف انحياز قناوي لإبراز أوجه التأثر الشرقي على الفنان الأوروبي، قبل أن يبدأ المشاهد في التعرف إلى الفنانة. تحكي ميندونسا عن زيارة قامت بها إلى تركيا قبل سنوات. لتقول لنا إن تلك الزيارة التي قادتها للتعرف إلى نفسها واكتشاف ولعها بالفنون الشرقية، فوجدت ضالتها وقررت أن تكون متخصصة في الحفر على الجلود. يبلغ زمن الفيلم نحو عشر دقائق وبضع ثوان، وهو يأتي ضمن سلسلة من الحلقات تحمل عنوان «الشرق في فنونهم»، ومن الواضح أن هذا العنوان يحمل دلالة التوجه والبحث، فالمخرج بدأ عمله منحازاً باحثاً عن أوجه التأثر والتأثير في ثقافة وفن الأوروبيين. هذا الانحياز نراه جلياً في اختيارات قناوي لأماكن التصوير واللقطات الواسعة الكاشفة. فهو يدفع المشاهد إلى إقرار التأثير قبل أن يُقدّم له عبر فنان أو فن بعينه. لا يخضع قناوي في أفلامه التي عنونها ب «الشرق في فنونهم» إلى ما يُعرف ب «ستايل بوك» إلا فيما يخص الموضوع، فعبر ثلاثين فيلماً لن تجد رابطاً إلا الموضوع، كيف تأثر فنان بالثقافة العربية والإسلامية وكيف انعكست الأجواء الشرقية في فنه. الجهد الأكبر في هذه الأفلام هو للبحث الذي قام به أيضاً قناوي وفق لعبة أدوار متعددة في هذه الأفلام القصيرة، والتي يمكن مشاهدتها كفواصل بين فقرات طويلة. ومن البديهي أن إعداد فيلم ليُصبح فاصلاً أمر يحتاج إلى معايير خاصة، إذ يحتاج إلى أن يقدم حالة من التشويق على مستوى البناء الدرامي، كما يستلزم إبهاراً في الصورة، هذا الإبهار الذي ينعكس على الاختيارات الجمالية في التصوير، والتي جاءت عبر عدسة مدير التصوير لويجي فيرزيللي. يُقرر قناوي أن تكون هناك مقدمة مصنوعة من الغرافيك تُشير إلى راقص المولوية التركي، كما عرفه الشرق والغرب، وهذا الاختيار متعمّد من وجهة نظري كون تركيا بمثابة الجسر بين أوروبا والشرق، وفقاً لتاريخ الدولة العثمانية الطويل، واستحواذها على الخلافة الإسلامية لقرون طويلة، وحسبانها على التاريخ الإسلامي، حتى وإن بذلت تركيا جهوداً مضنية للوصول إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. تأتي منيرة ميندونسا منطلقة أيضاً من تركيا، فهي الفنانة الإسبانية التي لم تجد بغيتها إلا في زيارة عمل إلى تركيا، تلك الرحلة التي تكشف لها عمق تأثرها بالثقافة الإسلامية، فتعود من رحلتها وقد وضعت يدها على روح الفنانة بداخلها وكيف سترسم مستقبلها.تُقرر ميندونسا أن تحفر فنها على الجلد وتختار الحرف العربي، هذا الحرف الذي استطاع أن يؤثر في الكثيرين من الغربيين، لما له من جماليات وطرق متنوعة في التشكيل. تقدم ميندونسا فناً ينحاز إلى الجوانب الاقتصادية والتُجارية، فهي لا تحفر جلودها لاستخداماتها الشخصية، بل لغرض البيع، وفي رحلة التعرف إلى الفنانة تنقل لنا الكاميرا مراحل العمل منذ لحظة اختيار الزخارف والحروف العربية التي تُشكل معنى للمواطن المسلم والعربي. فهي تختار عبارات تنتمي لآيات القرآن الكريم، أو جملاً تعود إلى البدايات الأولى للتاريخ الإسلامي. غير أن ميندونسا لا تكتفي بعملها وفنها بل تحول ورشتها إلى مدرسة تُعلم الآخرين وتُدربهم. وعلى رغم قصر زمن عرض الفيلم إلا أن التكثيف الذي اختاره قناوي في بناء فيلمه صنع حالة تشويق، تُسهم في المتابعة، هذه الحالة التي دعمتها صورة مميزة وانحياز لجماليات الشرق الباقية في غرناطة، وهو بذلك يسعى إلى تحريك مشاعر الفخر القديمة في نفوس العرب، تلك التي تتحرك تجاه المدن الأندلسية بخاصة، حيث مسلمون كُثر ما زالوا يجدون في أسبانيا إرثاً تاريخياً لهم.