شيء كثير ينقص من قيمة العمل الفني إذا وقفنا أمامه ولم نستدل على قراءة النص المرافق له. لم يعد يجدي نفعاً أن نرى لوحة أو عملاً تجهيزياً أو صورة أو شريط فيديو، كقيمة جمالية وبصرية بحد ذاتها بمعزل عن الخطاب الأدبي المشبوب بالعاطفة والمشاعر والعبارات المؤثرة التي أضحت جزءاً لا يتجزأ من التداولات الإيهامية للجيل المعاصر. اللغة - الفكرة والفكرة - اللغة، على ضوء حاجة الفنان للتواصل مع الآخر ومشاركته روايته الشخصية أو ذاكرته وأرشيفه ورؤيته، في زمن لم تعد مؤثرات الحرب سوى مادة بصرية قابلة للتطويع والاستعراض والتركيب. ذلك لا يعني ان المجددين هم من الجيل الشاب فحسب، بل إن أعمال المخضرمين الذين يواكبون مستجدات المعاصرة أكثر عمقاً في طروحاتهم التي تلامس ثقافة العين والفكر. بهذا الصدد نستطيع أن نعتبر مشاركة الكاتبة والفنانة ايتل عدنان، قيمة مضافة إلى المعرض الذي نظمته المديرة الفنية جوانا ابو سليمان شوفالييه (فرنسية من أصل لبناني) بعنوان «أرض القلب» في مركز بيروت للمعارض (سوليدير- البيال- لغاية 29 الجاري) ل 17 فناناً معاصراً مغترباً ومقيماً تربطهم بلبنان ذكريات ومشاعر وعلاقات حب وجذور وفعل انتماء. هذا الاستذكار للبنان يتراءى من خلال خريطة جغرافية مقلوبة تصدرت غلاف كتيّب المعرض الذي شمل ايضاً تذوق الأطباق المفضلة لدى الفنانين. وكان كل فنان اختار الطبق الذي يعيده بالذاكرة الى طفولته أو يعبر عن الرفاهية والرغبة او كطقس للتبادل. سيمون فتّال طبق «الشّاكريّة» وإتيل عدنان «المقلوبة» ومنى حاطوم «القطايف بالقشطة»... هكذا تتحول الأرض من شيءٍ جامدٍ الى فاعلٍ حيّ وفق بيان المعرض الذي يتحدث عن التخاطب الروحي بين الفنانين، لنكتشف طريقة اندماج الفن بالفولكلور ومتعة التذوق على سبيل الدعابة والتسلية أو ربما حب الحياة، هذا الحب الذي كثيراً ما يعبّر عن خصائص مدن. خرائط الذكريات: ما وراء الطبيعة لكأن التنقيب في الذاكرة يشكل محور استكشاف ما يمكن تسميته حفريات الفن المعاصر التي تنطوي على حقائق خفية تتخطى حدود السرد لمعاناة الهجرات وتمزقات الإقامة بين الشرق والغرب. وإنتاج الذكريات يبدأ من صدمة الوحدة والحنين الى الموطن والروايات السحرية التي ترافق الطفولة كظلها. هل يمكن ان يكون لبنان قد أصيب بعين الحسد؟ يتساءل ريّان تابت في عمله المكوّن من تجهيز أرضي بعنوان «نار انصهار رسم» وفيه يقوم بإحياء الطقوس التي كانت تمارسها جدته حين كان طفلاً للتكهن بحدوث إصابته بالعين، من خلال صب الرصاص الساخن في الماء، وذلك تعبيراً عن معتقدات جماعية لطالما كانت متجذرة لدى العائلات اللبنانية. وإذا كان أرز لبنان ميزة كرسته عبر الأجيال، فإن إطلالة نبيل نحاس من محترفه في نيويورك على موطن الأرز، تكللت بمشهدية آسرة ذات سمات أيقونوغرافية، إذ لم تعد الأشجار سوى بورتريهات لتضاريس جذوع صلبة تشرق الشمس على أغصانها التي تتوهج بلون الذهب. اما فاديا حداد فقد ذهبت الى ما وراء الطبيعة حين رسمتها بالألوان الرمادية، جبالاً تنهض من وراء الأفق وبحاراً تتلاعب بها الرياح... هي الطبيعة الهاربة بالمعنى الاستعاري للشعر حين تفقد الطبيعة روحها وألوانها. «التصوير هو مفكرتي الشخصية وهو خريطة داخلي. للتصوير إيقاع وأنفاس تتجذر في أعماقي». بهذه العبارة قدّم نديم أصفر لعمله «الحدود البحرية» وهو شريط فيديو يستعيد فيه منظر البحر من خلال ذاكرة شخصية تحمل بصمات الحرب اللبنانية، كما تعبّر عن هجرة اللاجئين غير الشرعيين، الذين يموتون غرقاً وهم يحلمون بالأرض الجديدة. وتطالعنا ميراي قصّار بشريط فيديو آخر عن براءة الطفولة السليبة في زمن القلق والفواجع وضيق الأفق. ويستمر الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج في البحث عن أثر «المخطوف» في زمن الحرب الأهلية، من خلال تظهير لقطات من أفلام منسية، تشبه في سياقاتها قطعاً صغيرة ممحوة من أرشيف أو مربعات للوحة تجريدية كبيرة. تلك المربعات ما هي سوى بيوت ضيقة خانقة مثل العُلب في تجهيز مروان رشماوي الذي يبحث عن إستراتيجيات جديدة للتفاعل مع موضوع الإقامة لدى المجتمعات المدينية. بين لقطات مكبّرة لتيمة «النوم» التي عملت عليها لميا جريج منذ العام 2004 انتقالاً إلى «الوسادة المزهرة» للمصور جيلبير الحاج، ثمة مكان لا يمكن اختراقه او العبور اليه ولو بالحلم في تجهيز منى حاطوم بطبيعته الشائكة وما يخفي وراءه من رؤية مضللة تعبّر عن الواقع المرير للشعب الفلسطيني. والشائك والمضلل هما بمثابة الفخ الذي نصبته نجلا الزين لزائري المعرض من خلال قطعة فِراء ملقاة على كرسي، وإذا بالفراء مكوّن من عيدان خشبية ذات رؤوس تخدش كالإبر. وإن كان تغيير وظائف أشياء Objets من الحياة اليومية هي بمثابة إعادة قراءة للواقع المعاصر، فإن إيتل عدنان قد كشفت الغطاء عن تجربتها العتيدة ككاتبة ومفكرة ورسامة من خلال عمل تجهيزي عبارة عن محتويات مكتبها الخاص على أساس أن عالَم الكاتب هو الحقيقة المطلقة، وأرفقته بخطاب وجودي «أين نحن». هكذا أظهرت الصورة التي كانت خفيّة عن نفسها وعن الأوقات التي تمضيها بين أوراقها والآلة الكاتبة على طاولتها. غير أن الهالة الخاصة لمكتب إيتل عدنان تكمن في أن قميصها الصوفي الملقى على الكرسي يقول إنها ذهبت للتّو وسوف ستعود. لا شيء يشبه رقّاص الساعة العملاق الذي يحمل توقيع رانيا سارابكي، إلا جلوس المرأة على فوهة الأرض... إنها ارض الطفولة في منحوتة سيمون فتّال. ثم تأتي العبارات التي مزّقتها إنابيل ضو، وأعادت تلصيقها على الورق القطني كي تتحدث عن خريطة العلاقات الإنسانية المبتورة والمتشجنة وهي تتأرجح بين الحب والإقامة والرحيل. ولئن رَتَقت إنابيل تلك العلاقات على ورق واهن، فإن هبة كلش قد صنعت من تشابكات خيوطها وعلاقات ألوانها نسيجاً معقداً وهي تحاول ان تعطي العالم معنى جديداً بما يكتنفه من مشاعر الفرح أو الوحشة والحزن. ليس من تخاطر روحي بين فنانين يمثلون أنفسهم وتجاربهم قديمها وحديثها بمعزل عن الشعار الفضفاض والحائر للمعرض. فالرحيل صوب تخوم البحار وأشجار الأرز ورداءات أرض الأحلام ووسائد النوم وعراء الواجهات السكنية والشمس التي تضيء ليالي الشعر الملتصق بجسد الأشياء، كلها تروي حقائق متفاوتة عن لبنان الحلم الذي تراجع.