لم يتوقف الراحل إسماعيل شموط عن إبداع فنه حتى في أيامه الأخيرة التي عاشها أسير الوهن والمرض، فظلّ يعيش هواجسه وأحلامه من خلال الألوان وظلالها التي كان يطلقها لتنمو في لوحاته. إسماعيل شموط الذي بدأ حياته الفنية مطلع خمسينات القرن الفائت وجد نفسه منذ الأيام الأولى لرحلته الفنية وحيداً. أعني هنا بالتحديد أنه وهو رائد الفن التشكيلي الفلسطيني لم يجد أمامه تجربة فنية ما يمكن أن تعينه في رحلته مع الفن، في تلك المرحلة العسيرة من زمان الفلسطينيين ومن زمانه هو بالذات. جاء شموط إلى مخيم خانيونس في قطاع غزة من مدينته اللد في سنته الأخيرة من مرحلة الدراسة الثانوية: هكذا كان عليه أن يعيش تجربة بالغة القسوة يتحامل فيها على آلام ومصاعب كبرى سواء في العيش مع أسرة فقدت كل شيء، أو حتى في البحث المضني عن خطوة البداية مع فنه الذي كان يغلي في روحه، والذي يحتاج هو الآخر إلى رعاية ما كي يمكن له الإنطلاق. اليوم حين أعود إلى استذكار تجربة إسماعيل شموط الفنية - خصوصاً لوحته الشهيرة «ذكريات ونار» - لا أستطيع إلا أن أتذكر تلك الرسوم الأولى التي قدمها الراحل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، والتي كانت كلها رسومات «إرشادية» عن النظافة وكيفية تجنب الأمراض. تلك الرسومات كانت تملأ جدران المدارس والأماكن العامة خصوصاً في المخيمات، ومنها كانت البداية الحقيقية للفنان الراحل الذي سرعان ما اكتشفت «الأونروا» موهبته فنقلته من قطاع غزة إلى بيروت حيث مقرها الرئيسي لتمنحه بعد ذلك فرصة دراسة الفن في شكل أكاديمي في العاصمة الإيطالية روما لمدة سنتين عاد بعدهما ليشرف على نشاطات الوكالة الفنية وخصوصاً في مدارسها التي تأسست وانتشرت في بلدان الشتات. منذ البدايات الأولى حملت تجربة إسماعيل شموط الأولى ملمحين بالغي الأهمية لم ينفصلا، التصاقه بتراجيديا الحياة الفلسطينية وحرصه في الوقت ذاته على تطوير أدواته الفنية. هو بهذا المعنى كان من الملتزمين بفكرة أن القضايا العادلة تفترض التعبير عنها بأدوات ومفاهيم فنية عالية المستوى لا تركن إلى عدالة القضية وحسب. نضيف إلى ذلك أن إسماعيل شموط استفاد إلى حد بعيد من التراث الفني للشعب الفلسطيني ولكنه لم يقدمه في صوره البدائية بل أخذ تلك الصور إلى مقامات الفن وعوالمه. نرى هذا الفهم العميق للتراث عموماً والفولكلور خصوصاً في لوحات عديدة وبالذات في لوحته المعروفة «جنة ونار»، والتي يقدم فيها فتاة بالغة الجمال ترتدي ثوباً تقليدياً في مدينة المجدل - عسقلان. في هذه اللوحة تمتزج عناصر الجمال بشقيه الإنساني الذي تجسده الفتاة والفني الذي يشير إلى صناعة الثوب وتطريزه بل وفكرة الجنة والنار من خلال خطين أحمر وأخضر يرمزان إلى ذلك. يرى كثر من النقاد كيف استفاد شموط من تقنيات الفن الحديث ومدارسه في العالم للارتقاء بفنه الشخصي على نحو تفاعلت خلاله لوحاته مع عناصر متعددة أبرزها وأكثرها «بلاغة» اللون، إذ كان يحتل مكانة أعلى وأهم وشموط اختار دائماً مزيجاً من الألوان «النارية» التي تتوافر دلالاتها في مفردات المأساة الفلسطينية كما أيضاً في الفرح الغائب والحلم الذي لا يغيب. بالمعاني كلها بل وبتفاصيل التجربة استحق الراحل إسماعيل شموط لقب رائد الفن التشكيلي الفلسطيني، لا لأنه صاحب التجربة الفنية الأولى زمنياً وحسب ولكن أيضاً بسبب ما جسّدته تجربته من فنّ عميق حمل رؤى راقية وذات أثر لا ينسى.