استعادت بلدة دارين (محافظة القطيف)، أمس، جزءاً من تاريخها المفقود والمغيب عن الذاكرة، حين تم العثور على مقبرة جماعية في المنطقة القريبة من قصر محمد بن عبد الوهاب الفيحاني، وذلك بعد أن قام صاحب الأرض بحفرها، تمهيداً لإعادة بناء منزله القديم. وعُثر على المقابر الجماعية، «مضغوطة»، بفعل تراكم السنوات عليها. فيما شوهدت مناطق أثرية تم تحديدها من جانب الهيئة العامة للسياحة والآثار، تمهيداً لإعادة درسها. إلا أن أطفال الحي سبقوا الهيئة في التنقيب عن هذه الآثار، إذ شاهدت «الحياة» أمس، خلال زيارتها إلى الموقع، أطفالاً يقومون بجمع العظام المتبقية والآثار الملقاة على الأرض، في شكل فوضوي، حتى أنهم كانوا يجمعونها في أكياس، من دون معرفة المكان الذي أخذوها إليه. واستبعد الباحثان في الآثار حسن دعبل، وجلال الهارون، صحة ما يتداوله الأهالي، من أن المقابر الجماعية الموجودة هي نتيجة «عقاب إلهي حل على سكان المنطقة، نتيجة مخالفتهم التعاليم الدينية». وقال دعبل، ل«الحياة»: «نحتاج إلى اختصاصيين، لمعرفة أسرار هذه الأرض، فالكنوز في دارين تنام في المقابر مع الأموات». ورجح من خلال قراءاته المتعددة، أن تعود هذه المقابر إلى «العصر السومري، أو ما بعد الطوفان». ولم يستبعد أن تعود إلى «العصر البابلي الثاني، بعد انهياره، خصوصاً أن وصايا حمورابي تضمنت أن يدفن قادته والمقربون من عائلته في أرض دلمون. وتعد دارين جنة دلمون، أو مقابرها الخالدة»، مستدركاً «أميل بشدة، إلى أن هذه المقابر تعود إلى العصر الكنسي، أو النسطوري، بدليل أنه اكتشفت أحجار مدججة وسيراميك، في عمليات الحفر التي أجريت قبل عامين. وربما كانت جزءاً من دور العبادة أو الكنائس التي كانت موجودة في المنطقة قبل دخول الإسلام». وحول ضغط الجثث الجماعية، قال دعبل: «ربما تكون بفعل تراكم الزمن، والفترات الجيولوجية المتعددة. واعتقد أن دارين في الأساس هي مدينة مُشيدة على أخرى، فهي منطقة عتيقة. وأميل إلى ان وضعية الجثامين بهذا الشكل البارز، ربما هو دلالة على أنها تعود إلى رهبان. واستبعد أن تعود إلى العصر الحديث». وأضاف «هناك دراسات، أو استدلالات تشير إلى ان هذه المقابر حدثت نتيجة حروب، مع أني استبعد ذلك، فالدراسات تشير إلى ان دخول أبو علاء الحضرمي إلى دارين في حروب الردة، التي شهدت أكبر سبي في العصر الإسلامي، بعد تواطؤ أحد سكان دارين، الذين كانوا من المسيح وديانات أخرى. وكانوا يدفعون الجزية، إذ تحصنوا في البلدة، وبقيت المنطقة تحت الحصار حتى قدوم أبو العلاء الحضرمي، الذي لم يستطع دخول دارين بالخيل، بسبب وجود المنطقة البحرية المحيطة فيها، فاتفق مع أحد السكان على إدخاله إلى دارين عبر «الخور»، بحيث إذا ساعده على ذلك، يمتنع عن قتل السكان، بعد سلب المدينة وتدميرها. ولم تدخل دارين الإسلام، بعد أن اشترط أهلها دفع الجزية. ولكنني لا أميل إلى هذه الرأي في شكل كبير». ويعتقد الدعبل، ان «دارين اعتنقت جميع الديانات عبر العقود الزمنية»، مستشهداً بشواهد تاريخية حدثت قبل الإسلام، من بينها «مرور الاسكندر المقدوني في دارين قبل موته، خصوصاً أنها كانت منفذاً وميناءً لعبور المسافرين إلى البصرة». وعن عدم الاهتمام في تاريخ المدينة، قال: «إعادة كتابة التاريخ يعد خدشاً في الذاكرة الحالية، وإعادة لملمة المُبعثر من التاريخ الحضاري المهم جداً والموغل في القدم، وتاريخ هذه المنطقة المنسية، التي تملك تاريخاً عريقاً، لا يمكن التهاون فيه على الإطلاق، ففيها عبق تاريخ زمني طويل، ولا بد من الاهتمام فيه بالطرق المتاحة كافة». بدوره، يرى الباحث جلال الهارون، أن المقبرة الجماعية «تعود إلى عصر ما قبل الإسلام»، مستشهداً ب «طريقة الدفن الجماعية، وبقايا الأسماك والكائنات البحرية المدفونة مع بقايا البشر». وقال ل«الحياة»: «تتبعت بعض الدراسات في التاريخ الحديث، التي دونت قبل خمسة قرون، فلم أجد ما يشير إلى أي وقوع مجازر حدثت في هذه المناطق، خصوصاً ان الشكل الحالي للمقبرة، يوحي بدفن جماعي. ويجب البحث في الدراسات المُدونة قبل هذه الفترة، حتى يتم الوقوف على الحقيقة». وأضاف الهارون، «مثل هذه المقابر منتشرة في دارين، في عدد من الأحياء، بالكيفية والمستوى ذاتهما». وقال: «ربما كانت نتيجة مجزرة من مجازر القرامطة، إذ أن جميع الاحتمالات واردة في هذا الأمر. ونحتاج إلى أجهزة علمية وفرق بحثية متخصصة، لمعرفة أسرار هذه المقابر. وقد شاهدنا وجود الأطفال والكبار بين الأموات، إضافة إلى أسماك وكائنات بحرية مختلفة»، مضيفاً انه «لا توجد أي دراسات علمية دقيقة حول هذا الأمر». ولم يستبعد ان يتم «إغلاق ملف هذه المقبرة، وسيبني صاحب السكن منزله الجديد، من دون أي اهتمام من الجهات المختصة، كما حدث قبل أعوام عدة، عندما اكتشفت مقبرة مشابهة. وتم تأجيل درسها حتى قام صاحب الأرض بتحويلها إلى حفرة لتبديل زيوت السيارات، لعدم اهتمام الجهات المختصة بها». وحول ما يردده بعض الأهالي، من ان المقابر الموجودة في المنطقة نتيجة «عقاب إلهي». قال دعبل والهارون: «هذا جانب من الموروث الشعبي غير المكتوب. وهو جزء من الذاكرة الدينية الموروثة، إذ نمت هذه الأساطير، وصدقها البعض».