أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن الاقتصاد «تخطى المرحلة الأسوأ»، فيما أكد وزير التنمية الاقتصادية ألكسي أوليكايوف، ثقته في «عدم استمرار تراجع الاقتصاد»، لكنه لفت إلى أن «التعافي سيكون بطيئاً». وليست المرة الأولى التي يعلن فيها المسؤولون الروس تجاوز المرحلة الأصعب من الأزمة الاقتصادية التي تعمّقت مع العقوبات الغربية، على خلفية ضم القرم والتدخل في شرق أوكرانيا، وتراجع أسعار النفط إلى أقل من النصف في أشهر. لكن النبرة المتفائلة تأتي عقب تراجع وتيرة الانكماش الاقتصادي في الربع الثالث من العام الحالي مقارنة بالربع السابق، وتحسّن سعر صرف الروبل في شكل طفيف بعدما هوى إلى أقل من نصف قيمته منذ ربيع العام الماضي. كما سُجل تدفّق لرؤوس الأموال في الربع الثالث من السنة، للمرة الأولى منذ أربع سنوات. وقبل أيام، خفّضت وزارة التنمية الاقتصادية توقعاتها لوتيرة هجرة رأس المال من روسيا، مرجحة هجرة نحو 72 بليون دولار حتى نهاية السنة، في مقابل تقديرات بنحو 87 بليوناً. وأبقت الوزارة على توقعات العام المقبل بنزوح 57 بليوناً. ووردت التعديلات بعد بيانات البنك المركزي الروسي، التي كشفت أن «الربع الثالث شهد حركة إيجابية ودخلت رؤوس أموال بقيمة 5.3 بليون دولار». ويجمع معظم التوقعات الرسمية ودراسات مؤسسات البحوث، على أن الاقتصاد الروسي «سيهوي بنحو 4 في المئة هذه السنة، فيما تتراوح التقديرات حول العام المقبل بين انكماش بنحو نصف في المئة ونمو لا يتجاوز في أحسن حالاته، واحداً في المئة». وأفادت هيئة الإحصاء الروسية، بأن الناتج المحلي «تراجع نحو 4.3 في المئة في الربع الثالث على أساس سنوي، مقارنة بنحو 4.3 في المئة في الربع الثاني». وكشفت الهيئة أن الاقتصاد «سجّل انخفاضاً نسبته 3.8 في المئة في الأشهر التسعة الأولى من السنة». وربما يكون الاقتصاد الروسي لامس قاع الأزمة، وهو لن يواصل انكماشه هذه المرة، لكن النمو لن يكون سريعاً وسيستمر الركود حتى عام 2017 أو تسجيل معدلات نمو تقترب من الصفر، وفق معظم التوقعات، على عكس الوضع بعد أزمتي 1998 و2009 عندما سجل الاقتصاد نمواً ملحوظاً في الأعوام التي تلت الأزمتين. وتدلّ مؤشرات كثيرة على وجود مشكلات حقيقية في الاقتصاد يجب تجاوزها، إذ لم يستبعد المصرف المركزي أن «يتراوح التضخم بين 12 و13 في المئة حتى نهاية العام الحالي، ما يتوافق مع تقديرات وزارة التنمية. لكن دراسات مستقلة تؤكد «ارتفاع التضخم إلى نحو 15 في المئة». وتراجع حجم الناتج الصناعي في روسيا بنحو 3.7 في المئة حتى نهاية الربع الثالث مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي. فيما يشكّل انخفاض الاستهلاك المحلي بنسبة عشرة في المئة والاستثمار في رأس المال الأساس، عقبة مهمة تعترض تحقيق نمو قوي، لكن الأهم ربما هو ارتباط النمو بمدى تعافي أسعار النفط في الأسواق العالمية. وتوضح البيانات الاقتصادية عام 2013، أن نموذج بوتين للنمو الاقتصادي استنفد كل إمكاناته، وباتت العودة إلى معدلات نمو مرتفعة ضرباً من الخيال من دون إصلاحات هيكلية، والبحث عن رافعات جديدة للنمو. إذ في هذا العام الذي سبق ضمّ القرم والتدخل في أوكرانيا، لم يتخطّ نمو الاقتصاد الروسي 1.3 في المئة، على رغم إنفاق أكثر من 50 بليون دولار على مشاريع ضخمة استعداداً لاستضافة «أولمبياد سوتشي» الشتوي عام 2014، إذ سُجل نمو لم يزد عن 0.5 في المئة عام 2013 وحده، وفق الخبراء، في ظل أسعار نفط وغاز مرتفعة نسبياً. كما لم تكن مفروضة في حينه أي عقوبات غربية، وكانت المؤسسات الروسية تملك خطاً مباشراً للاقتراض الخارجي. ويكشف هذا المؤشر أن الاقتصاد الروسي «بات يحتاج بإلحاج الى إصلاحات سريعة، والبحث عن محركات نمو جديدة». ولعبت عوامل كثيرة دوراً في تحقيق معدلات نمو جيدة منذ تسلّم بوتين السلطة عام 2000. إذ تواصل تعافي الاقتصاد الروسي بعد الأزمة المالية العاصفة في آب (أغسطس) 1998، وكذلك أسعار النفط من جهة، وأعلن بوتين حرباً على الفساد والاحتكارات المالية من جهة أخرى. وبنى فريق بوتين الاقتصادي نموذجه على أساس دعم الاحتكارات والمؤسسات الحكومية، وأخرى عبر عمليات دمج في القطاعات الرئيسة، مع شركات قابضة واعتبارها المحرك الرئيس للنمو. وساهمت عودة الاستقرار والنظام في جذب الاستثمارات الأجنبية في فترتي حكم بوتين الأولى والثانية. لكنّ أسباباً أخرى ساهمت في إضعاف نموذج بوتين الاقتصادي، منها انعدام الإصلاحات السياسية والعجز في الوصول إلى نتائج جدية في محاربة الفساد، وعدم حدوث إصلاحات في النظام القضائي، وغياب التنافس مع هيمنة الاحتكارات والشركات الحكومية الكبرى، وعدم تنمية قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وزيادة الاعتماد على واردات النفط والغاز والنمو المحدود للصناعات. وفي وقت يرى فريق واسع من الخبراء أن موسكو اختارت الهروب إلى الأمام بافتعال مشكلات في القرم وشرق أوكرانيا وسورية، لتغذية الروح القومية، وإبعاد الأنظار من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وانعدام أفق نمو اقتصادي مستدام ومتوازن بعيداً من الاعتماد المفرط على تصدير الخامات والطاقة، كشف تركيز وسائل الإعلام الروسية على ميزات الأسلحة المستخدمة في سورية، وتخصيص مساحات واسعة لمقارنة الأسلحة الروسية مع نظيراتها الغربية، والاستعراض الكبير بضرب صواريخ «كروز» بعيدة المدى من بحر قزوين من دون الحاجة الحقيقية إليها في ضرب مواقع في سورية، عن أهداف أبعد ربما تكمن في تجربة طرازات جديدة من الأسلحة والصواريخ والقذائف للترويج لها، وزيادة صادرات مجمع الصناعات العسكري الروسي، والظفر بحصة أكبر في السوق العالمية على حساب الولاياتالمتحدة، وإعادة الحياة الى الصناعات العسكرية ومساهمتها في إنتاج سلع للاستخدام المدني كما كانت الحال في زمن الاتحاد السوفياتي قبل انهياره. إذ كان المجمع العسكري يضمّ ستة ملايين عامل، وينتج سلعاً مختلفة من الأدوات المنزلية والإلكترونيات إلى الصواريخ والطائرات. وواضح أن صناع السياسة الاقتصادية في روسيا لا يزالون في طور النظريات التجريبية لتطوير الاقتصاد، لأن صناعة الأسلحة باتت تعتمد كثيراً اليوم على الشركات المدنية لتزويدها الإلكترونيات المتطورة. كما لم تتجاوز صادرات القطاع عشرة بلايين دولار عام 2014، على رغم الارتفاع الكبير في السنوات الأخيرة.