لو جرب المرء أن يحذف أسماء العاملين وأسماء الأمكنة والإشارات الخاصة المحددة من فيلم «خبزنا كفاف يومنا» للأميركي كينغ فيدور، سيخيّل إليه على الفور انه أمام فيلم سوفياتي من تلك الأفلام الغارقة في الحماسة الثورية، وفي حماسة العمل الجماعي التي كانت تحقق في «وطن الاشتراكية التفاؤلية» الأول أيام ستالين. ومع هذا فإن كينغ فيدور لم يكن ماركسياً، بل مسيحياً كويكرياً ومعادياً بقوة للشيوعية، وهو لبساطته ما كان ليقدّر أبداً أن «خبزنا كفاف يومنا» يمكن أن يعجب الشيوعيين حتى وإن كان عن عمد، فاقتبس لفيلمه هذا نهاية كانت أصلاً لفيلم سوفياتي حقق في العام 1929 وعنوانه «توركسيب»، كذلك فإن «خبزنا كفاف يومنا» لم يكن صدفة في حياة فيدور وعمله، إذ ان المراقب لسينما هذا الرجل لن يفوته أن يلاحظ أن هذا الفيلم يبدو وكأنه يستكمل فيلماً سابقاً له حققه فيدور بعنوان «الزحام»، بل ان أسماء الشخصيات الأساسية هي نفسها في الفيلمين! فقط علينا أن ننتبه هنا إلى أن «خبزنا كفاف يومنا» حقق في العام 1934 وتحديداً تحت تأثير صعود الروزفلتية المجابهة للكساد القاتل الذي كان عم الاقتصاد الأميركي محولاً قطاعات عريضة من الاميركيين إلى جائعين بؤساء، وهكذا يبدو أن «خبزنا كفاف يومنا» في نهايته فيلم متفائل يناصر «صفقة روزفلت الجديدة» ويدعو إلى أن العمل معاً هو ما ينقذ أميركا مما هي فيه. من هنا ما ان تذكر سينما فرانك كابرا الذي كان من اكبر مؤيدي روزفلت وسياسته في هوليوود، حتى يذكر معه على الفور كينغ فيدور باعتباره أيضاً سينمائي البشر العاديين، الذي عرف في أفلامه في ذلك الحين كيف يعبّر عن تفاؤل الارادة. والحقيقة أن تفاؤل الإرادة هذا هو ما يسيطر على مجمل ما يبدو للوهلة الأولى اشتراكياً مادياً، لكن نظرة معمقة إليه ستكشفه، حقاً «كويكرياً»، أي منتمياً إلى بساطته المسيحية الأولية، كما ورثت مباشرة من تفسير بروتستانتي لتعاليم القديس فرانسوا الاسيزي. وواضح هنا أننا نبدو شديدي القرب من الماركسية على الطريقة الشعبوبية الإيطالية، حتى وإن كان كينغ فيدور غير مدرك ابداً لهذا التقارب بين بساطة مسيحية البسطاء وجوهر الماركسية. بالنسبة إلى كينغ فيدور كان الهم الأساس أن يجعل من فيلمه سنداً لسياسة روزفلت في دعوة واضحة إلى العمل والى التعاون بصفتهما الترياق الذي ينجي من الكارثة. و «الكارثة» هنا تطالعنا منذ البداية، منذ أول الفيلم عبر بطله الأساسي جوني الذي تصيبه البطالة في شكل مباغت بسبب الكساد الاقتصادي، ثم يجد نفسه مطروداً لعجزه عن دفع الإيجار من الشقة الضيقة البائسة التي يعيش فيها مع زوجته ماري، لكن الأمور سرعان ما ستُسوّى: هناك عم له يمتلك مزرعة خربة في منطقة الميدل ويست، صحيح أن المزرعة مرهونة لكن يمكن مع هذا لجون وماري أن يقيما فيها، وأن يشتغلا في استغلالها. ولا يجد الزوجان مناصاً من القبول حتى وإن كانا يعرفان أن الجفاف يكاد يبعد كل أمل، وأن الأرض في حاجة إلى مقدار كبير من العمل والجهد. لكنهما يكتشفان بسرعة أنهما ليسا وحدهما، فها هو جار لهما في مكان الإقامة الجديد هذا طرد مثلهما من المدينة الكبيرة وبات في حاجة إلى أن يعمل، لهذا يعرض عليهما تقديم يد العون، على أن يتشاركوا معاً في الجهد ويحاولوا معاً جني بعض ثمار هذا الجهد، وتكون النتيجة أن يؤسس الثلاثة تعاونية إنتاجية، لتتمكن بسرعة من استقبال كل صنوف البائسين الجائعين الذين تغص بهم المنطقة. وتحولت تعاونية الثلاثة إلى تعاونية جماعية، وإذ بدا أن الأمور ستسير على ما يرام، اكتشفوا أن الجفاف متواصل وأن كل الجهود التي يبذلونها معاً لن تجدي نفعاً في غياب الماء. ولكن في اللحظة التي يبدو فيها كل شيء قاتماً، تحدث المعجزة - ونحن نعرف أن كل انفراج مسيحي يحتاج إلى معجزة، ما يوقف هذا التشابه بين فيلم كينغ فيدور وبين السينما السوفياتية المشابهة -، وتكون المعجزة على شكل بئر ماء يكتشف جون، بنفسه، وجودها في مكان لا يبعد كثيراً عن المزرعة التعاونية، ولنا أن نتصور النهاية التي يؤدي إليها هذا الاكتشاف الفجائي: ينخرط الرجال جميعاً في الحفر ساعات وأياماً، حتى ينبثق الماء في نهاية الأمر صاعداً من مكمنه حتى عنان السماء، ويستحم الحضور جميعاً في هذا الماء المبارك، الذي سيكون العثور الفجائي عليه بالطبع الحل المثالي الرائع لوضعهم، وينتهي الفيلم وهم يهزجون ويغنون. لقد أحب الجمهور هذا الفيلم، واعتبره صرخة من اجل الالتفاف على بعضه بعضاً، في أميركا اكتشف مواطنوها فجأة أن هذا النوع من التعاون، ممزوجاً مع هذا النوع من الحلول العجائبية الفجائية، كان في جذور قيام تلك الأمة، فكان أن أعاد الفيلم الثقة إلى أميركا وحرك بخاصة الأميركي الوسط لكي يكف عن الانتظار سلبياً، ودعاه الى استبدال خوفه السلبي المترقب، بعمل دؤوب تنبثق بعده المعجزة. من ناحية أساسية بدا الفيلم للنخبة وللنقاد يوتوبيا عجيبة الحل، ولكن هل كان هذا الرأي يهم حقاً، وسط ظروف كان الغرقى فيها يتمسكون بأي قشة؟ بالنسبة إلى كينغ فيدور، الذي كان وسيظل من أكثر المخرجين الاميركيين شعبية في ذلك الحين، كان مطلوباً من هذا الفيلم أن يفتح ما يسمى في أميركا «أفق إنسان واحد إلى آفاق كل الناس»، تمثلاً بنظرة الرئيس روزفلت نفسه، وهو كان رأي فيدور نفسه الذي بدا في هذا صادقاً مع تاريخه ومع خطه السينمائي الذي كان تجلى في أفلام له اعتبر كل منها مؤسساً في مجاله، مثل فيلم «هللويا» الذي كان من أول الأفلام المناهضة للتمييز العنصري ضد الزنوج، ومثل «الزحام» الذي يبجل وحدة البشر والجهود المشتركة، قبل أن يخوض في مواضيع أكثر حميمية مثل «غرام أميركي»، ثم «صراع في الشمس». [email protected]