احتل تعبير المجتمع المدني وموقعه العام مساحة واسعة في الفكر السياسي الحديث، وتعود جذوره إلى ثلاثة قرون مضت، بحيث حققت المجتمعات الغربية تقدماً فعلياً في قيام هذا المجتمع بمؤسساته الفاعلة والرقابية على السلطة السياسية، ما جعله عنصراً مكوناً أساسياً في تحقق الديموقراطية. في مجتمعاتنا العربية، لا يزال المجتمع المدني ومنظماته ومفاعيله تقع في باب النظرية والتأمل والأمل في تحققه أكثر من وجوده على أرض الواقع. تسعى الأنظمة العربية إلى الهيمنة على المؤسسات المدنية التي تحاول ممارسة دور مستقل، فتمارس عليها القمع المادي والمعنوي وتعمل على إلحاقها بأجهزة السلطة. في محطات تاريخية، أمكن بلداناً عربية أن تحتضن منظمات يمكن تصنيفها في خانة المجتمع المدني، لكن المسار الذي سلكته هذه المجتمعات خصوصاً منها انهيار الدولة وبناها لمصلحة العصبيات القبلية والطائفية والإثنية، أطاح الحد الأدنى لهذا المجتمع المدني الوليد، فباتت مؤسساته ملحقاً تستخدمه هذه العصبيات في اكتساحها الحيز العام الذي كانت الدولة تشغله. على رغم التطور العام الذي شهدته المجتمعات الغربية. إلا أن السجال حول المجتمع المدني ودوره لم ينقطع، ويشهد الأدب السياسي صدور مؤلفات تتناول هذا الموضوع، من ضمن هذه الكتابات يقع كتاب «المجتمع المدني، النظرية والممارسة» للباحث البريطاني مايكل إدواردز. صدر الكتاب عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في بيروت، بترجمة عبدالرحمن عبدالقادر شاهين، ومراجعة الباحث سعود المولى. تعددت تعريفات المجتمع المدني في الغرب، ومنها أنه يعني «أساساً تقليل دور السياسة في المجتمع وذلك بتوسيع الأسواق الحرة ونطاق الفردية». ويذهب دون إرلي إلى القول: «مع اقتراب القرن الحادي والعشرين، ظهر مصطلح جديد في النقاش الأميركي السياسي، حاملاً معه توقاً جماعياً لأمة تبحث عن توجه جديد. ذلك المصطلح هو المجتمع المدني. وتذهب نظريات أخرى إلى اعتباره أفضل طريق للعمل السياسي في عالم ما بعد الحرب الباردة، وأنه البديل الوحيد للدولة التسلطية والسوق المستبدة. في الوقت نفسه، بات المجتمع المدني المفتاح التحليلي الجديد الذي يكشف ما يكتنف النظام الاجتماعي من غموض». على رغم أن المفاتيح الأساس للمجتمع المدني تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على يد مفكري الأنوار ومفكري النظريات الاشتراكية، إلا أن «الفورة» التي عرفها مطلع الألفية الثالثة وحتى اليوم تطرح علامات استفهام حول استخدام هذا المفهوم في السياسة على يد الأنظمة في أميركا وبلدان الغرب. كان نمو المجتمع المدني وصعود مؤسساته تطوراً طبيعياً شهدته المجتمعات الغربية في سياق تكونها وقيام أنظمتها السياسية وتقدمها الاقتصادي والثقافي، أي أن هذا المجتمع لم يولد بعملية قيصرية من الخارج. من هنا، ثبات تنظيمات هذا المجتمع وفاعليتها في أماكن وجودها. بعد التطورات التي عرفها العالم منذ عام 2001، خصوصاً بعد هجمات نيويورك، دخل المجتمع المدني كنظرية ومفهوم، في سياق البازار السائد حول محاربة الإرهاب. كانت الولاياتالمتحدة بقيادة المحافظين الجدد تجد ضرورة في إقامة مجتمعات مدنية في الدول التي ترى أنها بعيدة عن الديموقراطية. فاعتبرت أن إحدى وسائل التصدي للإرهاب تكون في نشر الديموقراطية وخلق مجتمع مدني، ولا يتحقق ذلك في نظر الولاياتالمتحدة إلا باحتلال هذه الدول على غرار ما حصل في العراق والادعاءات التي رافقت هذا الاحتلال من أنه يهدف إلى نشر الديموقراطية وتحقيق حقوق الإنسان. شيء مشابه رافق انهيار الاتحاد السوفياتي، وما تبعه من انهيار الشيوعية، فاعتبر المجتمع المدني وضرورة قيام منظماته وسيلة الدخول في الديموقراطية والانفتاح على العالم الغربي وعلى الحداثة بالإجمال. يثير مايكل إدواردز الكثير من الأسئلة حول المجتمع المدني أكثر مما يطرح أجوبة، يميز بين دول متقدمة ودول سائرة في طريق النمو، ويرفض الخلط في المفاهيم أو إسقاط تجارب العالم المتقدم على العالم النامي. يشير في هذا الصدد قائلاً: «إن نظرة فاحصة لأدبيات المجتمع المدني تخلق بسرعة شعوراً تاماً بالإرباك والحيرة لدى معظم الناس. واستناداً إلى النسخة التي يتبعها المرء، يكون المجتمع المدني إما منتجاً محدداً من منتجات الدولة القومية والرأسمالية (نشأ تلقائياً للتوسط في النزاع بين الحياة الاجتماعية واقتصاد السوق عندما عملت الثورة الصناعية على فسخ أواصر القربى والمجتمع الأهلي التقليديين)، أو تعبيراً عالمياً عن الحياة الجماعية لأفراد عاملين وناشطين في كل البلدان وفي مراحل التطور كافة، لكن التعبير عن ذلك يجري بطرائق مختلفة وفق التاريخ والثقافة والسياق. ولما كانت الدول القومية في الجزء الأكبر من العالم النامي نتاجاً كولونيالياً يتميز اقتصاد السوق فيها بالهشاشة، فإن المجتمعات المدنية في الجنوب لا بد من أن تكون مختلفة عن مثيلاتها التي ظهرت في الشمال». من شروط قيام المجتمع المدني وممارسة دوره أن يتمتع بالاستقلالية في عمله. شكلت قضية الاستقلالية، ولا تزال، محوراً مركزياً في الصراع ضد الأنظمة السياسية، أياً كان نوعها ودرجة تقدمها، والتي لا تستسيغ الاستقلالية المطلقة. أفادت الأنظمة السياسية في الغرب وفي الولاياتالمتحدة من إعلان الحرب على الإرهاب ومنظماته داخل بلدانها وخارجها، لتمارس قيوداً على الحريات الفردية وتفرض رقابات متنوعة على مؤسسات المجتمع عامة، فطاول المجتمع المدني ومنظماته حيزاً واسعاً من التقييد لعملها. إن توحيد القوانين في أوروبا وأميركا في شأن الرقابة والتشدد في توسيع مجالاتها، مسّ ممارسة المجتمع المدني في الصميم، ولم يقنع هذا المجتمع رفع شعار الدفاع عن الوطن والأمن القومي في فرض القيود. كثيراً ما تشكل قضية سياسية محقة في المعالجة، وسيلة لتجاوز القانون، كأنها قضية حق يراد بها باطل. من هنا، المعركة المفتوحة في الأنظمة الديموقراطية لمنع تعطيل فاعلية مؤسسات المجتمع المدني ورقابتها على قرارات السلطات العامة. في مجتمعاتنا العربية، يبدو الوصول إلى مجتمع مدني تعمل منظماته باستقلالية وشفافية أشبه بحلم ليلة صيف. فالعقبات تواجهه من مختلف الجبهات: من أنظمة استبدادية لا تطيق استقلالية لأي مؤسسات مدنية، إلى مجتمعات تسير في طريق التذرر الطائفي والمذهبي، فتلحق هذا المجتمع بمؤسسات الطائفة أو العشيرة أو القبيلة، ودرجة التطور الاقتصادي تمنع ولادة منظمات مدنية، ناهيك بحجم الفساد السائد الذي يجعل المستفيدين منه جيشاً يقف في وجه أي مساءلة أو مراقبة قد تخطر على بال مؤسسة مدنية... إضافة إلى عقبات أخرى. لكن، وعلى رغم ذلك، يظل بناء مجتمع مدني هدفاً لا بد من العمل للوصول إليه في عالمنا العربي.