تصدّر شعار الديموقراطية كل الانتفاضات العربية التي قامت منذ عامين، واعتُبرت الهدفَ الرئيس الذي تسعى اليه الشعوب العربية العاملة على إسقاط أنظمة استبدادية تحكمت بها لعقود من الزمن. بات الشعار مطروحاً لدى كل الأحزاب السياسية الليبرالية والقومية واليسارية والإسلامية، وترافق الطرح مع شعارات تبسيطية في أن الانتفاضات ستوصل الشعوب العربية إلى قيام أنظمة ديموقراطية في أقرب وقت، وهو اختزال أو تبسيط سرعان ما بدأ يتبدد مع خوض شكل من أشكال الديموقراطية، وهو المتصل بالانتخابات النيابية، وما آلت إليه من صعود لتيارات سياسية سرعان ما وضعت شعار الديموقراطية جانباً، لتستعيد أنماطاً من السلطة يبدو أنها أسوأ مما كانت تمارسه الأنظمة المنهارة. لم يخل السجال من «تبرّع» مثقفين في استحضار وصفات للديموقراطية واقتراح إسقاطها على المجتمعات العربية في وصفها الحلول المنشودة لعلاج أمراض السلطة في العالم العربي. لكن مراكز الأبحاث الغربية رأت في الانتفاضات العربية ومسارها مادةً بحثية مهمة حول مسألة الديموقراطية وإمكان تحققها في العالم العربي. شكل كتاب «هل الديموقراطية قابلة للتصدير؟» الذي شارك فيه خمسة عشر خبيراً في الشؤون السياسية والاستراتيجية (دار جداول)، فرصة لطرح الديموقراطية وإشكالاتها وصلتها بالوضع المحلي لكل بلد، كما شكل السؤال عن تصديرها محوراً مركزياً في المعالجات. انطلق الباحثون من الشعار الذي طرحته الولاياتالمتحدة وتبناه عدد غير قليل من الدول الغربية خلال العقدين الأخيرين من الزمن، وهو أن إحدى مهمات الغرب وحضارته هي المساعدة على إحلال الديموقراطية في بلدان تعتمد في حكمها على الديكتاتورية وتشرعن الإرهاب. واقترن الشعار بضرورة التدخل العسكري لقلب الأنظمة المستبدة وإقامة أنظمة ديموقراطية تعترف بحقوق الإنسان. تحت هذا الشعار جرى غزو أفغانستان واحتلال العراق في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبصرف النظر عن زيف الهدف ومدى الصحة في رفعه، ومدى اتصاله أولاً وأساساً بمصالح الدول الغربية وليس بمصالح الشعوب في البلدان المستهدفة، إلا أن النتائج التي أسفرت عنها التجربتان العراقية والأفغانية كانت كفيلة بطرح شعار «تصدير الديموقراطية» على محك البحث النظري والعملي، بحيث تجاوز الباحثون المصالح الاستعمارية الحقيقية الكامنة وراء غزو الخارج تحت شعار نشر الديموقراطية ليتوقفوا أمام الشروط الداخلية. توافق جميع الباحثين في أوراقهم البحثية على فشل هذا التصدير للديموقراطية، فبدلاً من قيام أنظمة ديموقراطية، انفجر العراق إلى مكوناته الأصلية، الطائفية والإثنية والعرقية، ودخل في حروب أهلية دفع الأميركيون والأوروبيون ثمنها غالياً، في القتلى والخسائر المادية، ما جعل الولاياتالمتحدة تنسحب من العراق من دون أن ترى دولة ديموقراطية قائمة ومؤسسات تحميها، بل إن ما تركته الولاياتالمتحدة شلالات من الدم تجري يومياً وتحصد المئات من العراقيين، إلى جانب تفكك الدولة والمؤسسات القائمة وانهيارها وعودة مكونات ما قبل الدولة من عصبيات لتسود المجتمع العراقي. لم يكن الحال أفضل في أفغانستان، حيث غرقت الدول الغربية في وحولها، وتحول التدخل إلى حروب أهلية مفتوحة يدفع ثمنها الأفغان والغرب على السواء. وبعد اثني عشر عاماً، بدت استحالة إقامة دولة ديموقراطية، بل إن ما يجري حالياً هو إعادة الصلة بحركة طالبان لإيجاد تسوية معها تعيدها إلى السلطة مقابل خروج القوات الأجنبية من البلاد. في النموذجين العراقي والأفغاني، ثبت أن نظرية تصدير الديموقراطية خاطئة بكل معنى الكلمة، وهو ما أعاد طرح الشروط المحلية والموضوعية لتحقق الديموقراطية في أي بلد. يقر الباحثون بأن الديموقراطية باتت نظرية عالمية، تحمل قيماً ثابتة لا مجال للمساومة في شأنها، من قبيل الحريات السياسية والتعددية الحزبية وحرية الرأي والإعلام، والمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو اللون، وخضوع جميع المواطنين لسلطة القانون، إضافة إلى كل ما يتعلق بتداول السلطة واختيار الشعب مرشحيه في البرلمان... لكن الديموقراطية، حيثما تحققت، كانت لها أشكالها الخاصة وسماتها غير المتوافقة مع بلد آخر، وقدم الباحثون نماذج عن تكوّن الأنظمة الديموقراطية في بلدان أوروبية وأميركية مختلفة، وأظهروا المفارقة في الوصول إلى هذا النظام، والمشكلات التي واجهتها الشعوب، وكون بعض هذه المشكلات بقيت من دون حلول. توافق معظم الباحثين أن الديموقراطية تتطلب جملة عوامل ومقومات يستحيل الوصول اليها من دون تحقق هذه الشروط. إن أقل الأمور أهمية، كما أشار بعض الباحثين، أن يجري تحديد الديموقراطية بأنها الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، على رغم أهمية هذه المسألة، فالديموقراطية مسار سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي على الشعوب خوض مسار معقد للوصول اليه. يصعب أن تتحقق الديموقراطية في مجتمع تسوده العلاقات الفئوية والجهوية، من عصبيات منخرطة في تناحر أهلي، و يصعب تحقيق الديموقراطية في بلد يفتقد إلى الحد الأدنى من قيام منظمات المجتمع المدني. ويصعب قيام الديموقراطية في بلد يلفه الفقر والحرمان ويفتقد التنمية البشرية، حيث تشكل هذه التربة مناخاً تزدهر فيه الحركات الإرهابية وليس ميداناً لازدهار الخيارات الديموقراطية. ويصعب أيضاً قيام ديموقراطية من دون وجود قوى اجتماعية وسياسية وثقافية حاملة لها ولثقافتها.. هذه كلها شروط بنيوية تتصل بالبلد المعني، حيث تقرر العوامل الداخلية إمكان أو فشل الخيارات الديموقراطية. أما بالنسبة إلى الخارج، فلن يكون سوى عنصر مساعد ولكن غير مقرِّر في هذا المجال. بعد عامين على الانتفاضات العربية، لا يزال سؤال الديموقراطية هو السؤال المؤرّق للجميع. هناك نخب ترفضه لكونه منتجاً غربياً لا يتوافق مع تقاليدنا وثقافتنا، فيما يراه آخرون نتاجاً عالمياً بات ملك البشرية وشعوبها، وما على النخب السياسية والثقافية إلا أن تنهل من هذا التراث الغني، وتسعى إلى توظيفه في معاركها ضد الاستبداد والديكتاتورية. ويجب ألا يظل النقاش مقتصراً حول المفاهيم، فالمطلوب إنضاج الشروط الموضوعية التي تهيئ الأرض لإمكان الوصول إلى الديموقراطية. في هذا المجال، يظل كتاب «هل الديموقراطية قابلة للتصدير؟» مادةً مساعدة في فهم المسار المعقد نحو الخيار الديموقراطي.