أفضى تفجير انتحاري استهدف مبنى الأدلة الجنائية في ساحة التحريات في منطقة الكرادة في وسط بغداد إلى مقتل زهاء 15 شخصاً بينهم خمسة من الشرطة، وإصابة زهاء 80 شخصاً بجروح. التفجير في سياق أحداث العنف في العراق يبدو اعتيادياً، غير أنه في سياق الأحداث السياسية ونمط التفجيرات الانتحارية التي تشهدها مدينة بغداد منذ آب (أغسطس) الماضي، يغدو أقرب إلى وسائل «الدعاية السلبية» التي يقبل عليها بعض القوى الحزبية للتأثير في حظوظ خصومها ومنافسيها في الانتخابات المقرر إجراؤها في السابع من آذار (مارس) المقبل. يتأسس ذلك على أن الحملات الانتخابية في العراق باتت تشهد نمطاً جديداً من وسائل الدعاية الانتخابية هي وفق الأدبيات السياسية ذات «تأثير إعاقي»، يؤشر إلى استيعاب درس الانتخابات البلدية التي أجريت في كانون الثاني (يناير) الماضي، فالمناخ الأمني الذي أجريت في ظله أفضى إلى فوز ائتلاف «دولة القانون» بقيادة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، على نحو دفع بعض القوى المعارضة للمالكي إلى إدراك أن إدارة الصراع معه تتطلب عدم تكرار السيناريو ذاته، إذا ما رغبت في الحد من شرعيته وقدرته على الاحتفاظ بمنصبه لفترة جديدة. وشكل ذلك أحد العوامل الرئيسة في بروز «الموجة الثانية» من عمليات العنف التي تركزت في مدينة بغداد، والتي بدأت حلقاتها الأولى مع تفجيرات 19 آب (أغسطس) الماضي (الأربعاء الدامي) مستهدفة المباني العامة لوزارتي الخارجية والمال العراقيتين، وتجسد آخر حلقاتها في العمليات التي شهدها مبنى الأدلة الجنائية. وتعددت سمات تلك العمليات التي لم تقتصر أهدافها على مناطق تمركز الشيعة أو السنّة أو المناطق المختلطة، وإنما ركزت على الأسواق التجارية ومراكز الشرطة ونقاط التفتيش الأمنية والمؤسسات الحكومية ذات الدلالات الرمزية. ويمكن إجمال أهم خصائص هذه الموجة على النحو الآتي: أولاً: إنها تأتي في «الأوقات الحرجة»، من حيث قرب إجراء الانتخابات البرلمانية، التي من شأنها إعادة ترتيب القوى السياسية العراقية، ذلك أنها تستهدف التأثير في نتائج الانتخابات العراقية من خلال استهداف الدولة ذاتها، للتشديد على أن العراق لم ينتقل بعد إلى مرحلة الدولة المستقرة، بعدما كان انتقل بفضل التطور الأمني النسبي خلال السنتين الأخيرتين من مرحلة الدولة الفاشلة إلى مرحلة الدولة الهشة، لا سيما بعد تراجع معدلات الهجمات الشهرية في آب (أغسطس) الماضي على رغم ما شهده من عمليات عنف إلى 600 هجوم مقارنة ب4000 هجوم في الشهر ذاته من عام 2007. ثانياً: إنها تُعَد أكثر تأثيراً وقدرة على زعزعة الثقة في الحكومة العراقية وقدرتها على حفظ الأمن في العراق من خلال عدد الضحايا الضخم، فهذا النمط من عمليات العنف يستهدف المناطق السيادية التي تحظى بكثافة بشرية مرتفعة، لتغدو أكثر قدرة على التأثير في طبيعة التفاعلات السياسية الداخلية، ولتصبح بمثابة رسالة سياسية في «مظروف انتحاري»، ومفاد الرسالة إشارة إلى أن هناك إخفاقاً أمنياً كبيراً في العراق، يُسأل عنه قادة العراق الحاليون، سياسيين كانوا أم أمنيين. ثالثاً: إنها تترافق مع ظهور أجندات وتكتلات انتخابية «عابرة للطوائف»، تتخذ من مركزية العراق ووحدته شعارات لحملاتها وبرامجها الانتخابية، بما يكشف أن ثمة قوى أخرى تستهدف إبطال مفعول تلك البرامج. وعلق على ذلك الجنرال ستيفن لانزا، المتحدث باسم الجيش الأميركي في العراق بقوله: «لا أرى في أي مكان قريب من الهجمات وجود عنف طائفي، لذلك أعتقد أن العراقيين لم تعد لديهم الرغبة في العودة إلى العنف الطائفي». وأشار إلى أن الهجمات على المؤسسات الحكومية يقصد من ورائها تقويض الثقة في الدولة ذاتها وتدمير روح الوحدة الوطنية الناشئة، فضلاً عن الرغبة في إخراج الانتخابات المقبلة عن مسارها. ويمكن رد أسباب موجة العنف الجديدة ودوافعها في العراق إلى عدد من العناصر الرئيسة منها: أولاً: ضعف الاستعدادات الأمنية وتخاذل أجهزة الاستخبارات العراقية، التي أعلنت استعدادها لمواجهة احتمالات تعرض العراق لعمليات عنف. كما تظهر تلك الموجة أن الحكومة العراقية بقيادة نوري المالكي جعلت نفسها أكثر عرضة للهجمات بمفاخرتها المستمرة بتحسن الوضع الأمني، والذي تسبب تدهوره منذ احتلال العراق وحتى نهاية العام الماضي بسقوط زهاء 85 ألف قتيل في العراق وأكثر من 150 ألف جريح، وهي أوضاع قد تؤثر بشدة في حظوظه في رئاسة الائتلاف الحكومي المقبل. ثانياً: فساد الأجهزة الأمنية وعلاقتها بمثل هذه النوعية من التفجيرات، والتي قد تعبر عن «تمرد» آخر أكثر خطورة، وذلك في ظل التقارير الحكومية التي تشير إلى تفاقم ظاهرة إطلاق سراح المجرمين عقب دفعهم رشاوى لرجال الأمن، إضافة إلى شطب السجلات الجنائية مقابل أموال، وتعرض المحتجزين لمعاملة سيئة بهدف ابتزاز أقاربهم مادياً، وهي قضايا ثمة من يحاول استغلالها لتأكيد أن المالكي لم يعد رجل المرحلة المناسب، وثمة تقارير تؤشر إلى أن ذلك بات قناعة الولاياتالمتحدة الراسخة أيضاً. ثالثاً: توزع او تضارب اختصاصات الأجهزة الأمنية في العراق، لتشمل بالإضافة إلى وزارتي الدفاع والداخلية وزارة الأمن الوطني وأجهزة الاستخبارات وقيادة أمن بغداد، ويُبرز هذا التضارب حالاً من الصراع والتنافس بين قيادات هذه الأجهزة الأمنية، بما يشكل أحد أسباب الخروقات الأمنية، وذلك لعدم القدرة على تحميل المسؤولية الأمنية لشخص بعينه أو جهة أمنية معينة، على نحو يدفع بإلقاء مسؤولية الفشل الأمني على عاتق المالكي نفسه انطلاقاً من أن الأجهزة الأمنية تخضع لسلطته المباشرة، فضلاً عن تدخله في اختيارات قادة هذه الأجهزة. رابعاً: انصراف بعض القوى المسلحة عن العمل المسلح من أجل الانخراط في العملية السياسية ليس عن قناعة راسخة، وإنما ك «استراتيجية للبقاء»، ومن ثم فإن قدرة هذه الأطراف على اللجوء الى عمليات العنف من أجل «تصفية» خصومهم سياسياً ظلت أمراً قائماً في أغلب الأوقات، لا سيما في ظل اتجاه «هيئة المساءلة والعدالة» لاستبعاد عدد كبير من المرشحين بالإضافة إلى بعض التيارات والتكتلات ذات الشعبية الكبيرة في الأوساط العراقية. وثمة من يشير إلى أن أغلب عمليات الموجة الجديدة من العنف في العراق تعبر عن صراعات بين «الحلفاء القدامى»، وأنها أشبه ب «حرب تكسير عظام» قبل خوض غمار الانتخابات. مسار العملية الانتخابية هذه الاشكاليات قد تكون لها تداعيات وخيمة على مسار الانتخابات العراقية المقبلة، وذلك بالنظر إلى أنها تثير جدلاً سياسياً في شأن قدرة القوات العراقية على حفظ الأمن ومواجهة هذه النوعية من عمليات العنف بعد انسحاب القوات الأميركية من المدن والمحافظات العراقية، لا سيما أن ثمة تقارير أمنية تشير إلى أن أجهزة الأمن في العراق بحاجة إلى ما يناهز الثلاث سنوات لكي تتناسب قدراتها القتالية مع حجم التحديات الملقاة على عاتقها. ترتب على ذلك أن غدا موقف المالكي أكثر صعوبة، ليس انطلاقاً من أن عمليات العنف الأخيرة قد نالت الكثير من قدرته على الاستمرار في تقديم نفسه للناخب العراقي باعتباره الشخص الذي نجح في توفير الأمن والحد من تفاقم عمليات العنف في المدن العراقية، وإنما لأن عودة هذا الأمن تتطلب إعادة القوات الأميركية إلى المدن العراقية لتدعيم قدرة نظيرتها العراقية على مواجهة هذه النوعية من عمليات العنف، غير أن ذلك قد تكون له تداعياته السلبية على حظوظ المالكي في الانتخابات المقبلة كونه يُعد في نظر الكثير من العراقيين الشخص الذي توصل إلى اتفاق يقضي بإنهاء الاحتلال الأميركي للعراق نهاية عام 2011، كما أن عودة القوات الأميركية إلى المدن العراقية من دون تحسن الوضع الأمني قد تؤدي الى تدهور أكبر لشعبيته. العراق بمقتضى ذلك مقبل على مرحلة حاسمة على المسارين الأمني والسياسي، هذه المرحلة تتطلب إعادة التوازن إلى الوضع الأمني في العراق من خلال الفصل بين الملف الأمني والوضع السياسي، حتى لا تغدو الأخيرة رهينة لوضع سياسي سمته الأبرز التبدل والتغير، لا سيما أن مظاهر التسلح لدى المليشيات العراقية التابعة للأحزاب السياسية التي تستعد لخوض الانتخابات لم تتلاش بعد، كما أن الاختراقات الأمنية للأجهزة الأمنية العراقية سواء من جانب فلول «البعث» العراقي أو من جانب بعض التنظيمات المتطرفة لم تنته كامل مظاهرها. جملة القول، إن العمليات الانتحارية الأخيرة والتي باتت إحدى وسائل التأثير في مسار العملية الانتخابية تكشف أن العراق إذا ما كان قد عانى في الماضي من صراعات طائفية ومذهبية مقيتة، فإن أمامه في المرحلة المقبلة صراعات سياسية لا تقل خطورة، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في الاستراتيجيات الأمنية المتبعة، فضلاً عن إعادة هيكلة نمط العلاقة بين مختلف الأجهزة الأمنية العراقية، إضافة إلى صوغ نمط جديد من الروابط بين هذه الأجهزة ومختلف القوى السياسية العراقية، بما يحول دون خضوع أي منها إلى نفوذ أي من تلك القوى، على نحو لا يجعل من الانتخابات التشريعية المقبلة سبباً للانفلات الأمني وإنما جسراً للاندماج الوطني والوئام الاجتماعي والوفاق السياسي في العراق. * كاتب مصري