«جاءت المرأة التي تصب القهوة ونسيتها واقفة، فنظر إليّ بغضب بعد أن غادرت وقال: ضعي نفسك مكانها»، إنه كلام الأميرة حصة الشعلان عن زوجها عميد العرب الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ولن أجد أنسب منه مقدمة لمقال يتحدث عن الحب والعطاء، فحين سئلت الأميرة عن رأيها في حصول «أبو متعب» على المرتبة الأولى في ثقة الشعوب الإسلامية وللمرة الثانية في الاستطلاع قالت: «الملك عبدالله فعلاً ينحب»، وأنا أعتقد أن السر كله يكمن في عبارته: «ضعي نفسك مكانها»، فكل إنسان حباه الله بنعمة القدرة على تخيّل نفسه في مكان الآخر، تأكد أنك لن تجده إلا مقدِّراً ومضحياً ومعطياً، صحيح أنه لن يصل إلى درجة «الونّة» تماماً، ولكنه حاول على الأقل، ثم حرص على ترجمة محاولته بتفهمه ومشاركته في تخفيف المعاناة، وهي صفات الإنسان الحنون المحبوب، فالمعادلة ليست غامضة، غير أنها صعبة إلا على ذوي النفوس التي أحبها الله فقربها إليه وإلى عباده، وإلا لو كانت في متناول الجميع لكنت رأيتها وقد اجتمعت في كل الناس، فعلى رغم من وضوحها تجد من يخالفها، وبإصرار، فالإنسان ولد أناني بطبعه، ولكي يقيم توازناً بين فرديته وحبه للامتلاك واحتفاظه بمتاع الدنيا، وبين كرمه وعطائه للآخرين. فالمسألة تحتاج إلى مجاهدة وتحكّم في مفاتيح العقل، فأن تكون جواداً فهو اختيارك وقرارك، أما السخي بماله، فهو كذلك بعواطفه وإن تنوعت طرائق التعبير، فهل العطاء المادي دليل على التقدير المعنوي؟ نعم، فإغداق المال لا يكون دائماً عند العوز والحاجة، فأين نذهب بالهدايا والمكافآت إذاً!! فإن مرت بالإنسان حالة من البهجة، وكان مستعداً لإسعاد من يصادفه أثناءها! فهو انعكاس آخر لتطويع الإنسان على «تخيّل غيره في مكانه»، وكأنه يقول هذه المرة: «تعال واشعر معي...قاسمني سعادتي...ساعدني أن أحتفظ بها أطول»، فماذا عن إحساس المرء إذا قام بالمعروف، فلم يلق في مقابله سوى الجحود والنكران؟ لم يُرحم من الانتقاد ونسيان تاريخه الأبيض عند أول تأخير أو تأجيل؟ هل يصاب بالإحباط وينتابه الحزن على الوفاء الضائع؟ هل يتوقف عن التصرف بفطرته المحبة؟ هل يكبح لجام عشقه للخير والإحسان؟ أسئلة مرهقة، والإجابة عليها ليست بأحكام معممة أو مطلقة، فلكل امرئ «نَفَس» معين على الاحتمال والتعامل مع سخافات البشر، يطول هذا النَفَس فلا يكل صاحبه ولا يتراجع عن قناعاته بصرف النظر عن ردود الأفعال، فجزء من عطاء المرء يعود إلى أنانيته للقيام بما يميّز يومه ويدخل السرور عليه، وهذا النوع لا ينسحب من سباق العطاء على مشقته. ودعاؤنا للجميع أن تنتقل إليهم عدوى هذه الأنانية بعينها، أو يقصر هذا النَفَس ويقنّن متأثراً بما لاقى ويلاقي، فالإنسان المعطي وفي باله المديح والثناء فقد يصطبر على الانتظار ولا يسمع بقدر ما توقع، فتمل حماسته وتفتر، والحق أن الإنسان مهما كان كريم اليد والقلب فقد يصل إلى وقفة مع الذات إذا ترجم عطاؤه على أنه مسلم به، وبدلاً من أن يكون طواعياً يصبح واجباً يخنقه، ويقنعه بأنه الثمن الحصري لكي يكون محبوباً، فياأيها الممنوح ترفق بالمانح وأعنه بامتنانك وولائك، فكما أن للعطاء أصوله، فكذا الأمر في تلقي العطية. [email protected]