ينفق العرب على التدخين أكثر من إنفاقهم على التعليم، ولبنان نموذج عن ذلك بالأرقام والوقائع. ففي بلد السياحة والاستثمارات الاقتصادية والأزمات السياسية، تدور في الكواليس معركة صامتة من نوع آخر، عنوانها «حظر التدخين في الأماكن العامة». والمعركة قد تتحوّل صراع «ديكة» بين شركات التبغ والمشرّع اللبناني مع توافر المعطيات الآتية: أكثر من نصف سكان لبنان، أي 57 في المئة من المدخنين، واللبنانيون ينفقون 400 مليون دولار سنوياً على استهلاك السجائر التي تقتل سنوياً 3500 منهم. لا تحمل الأرقام شيئاً جديداً بقدر ما تخبّئه الأيام الآتية لنصف سكان لبنان من أصحاب التدخين الايجابي، والنصف الآخر من «ضحايا» التدخين السلبي. فلبنان الذي صدّق على اتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطاري لمكافحة التبغ (دخلت حيّز التنفيذ على المستوى الدولي في شباط/فبراير 2005)، وأصبح ملزماً باحترام بنودها، لم يقم منذ خمس سنوات بما يوحي بفرضه شروطاً منظّمة على استهلاك التبغ، أو اتخاذ خطوات رسمية تحمي في المقام الأول ضحايا التدخين السلبي الذين يقتصر ذنبهم على التصاقهم اليومي بحاملي السيجارة، وإن كانت المناقشات الدائرة اليوم في مجلس النواب اللبناني، على طاولة لجنة الإدارة والعدل، تبعث الأمل في نفوس غير المدخنين بقرب بت اقتراح قانون يحظّر التدخين في الأماكن العامة. حتى الساعة، لا يزال بت القانون في إطار التمنيات، او تنكشف مراعاة مصالح شركات التبغ في شكل فاضح لتفريغ القانون من مضامينه الأساسية، فهو مثلاً يبقي على مسألة تخصيص أماكن للمدخنين داخل المطاعم والمقاهي، في وقت تجزم الدراسات العلمية بأن هذه التسوية بجمع المدخنين وغير المدخنين تحت سقف واحد، لا تؤدي الى «عزل» رئة مناهضي التدخين عن آثار التدخين القاتلة في كثير من الأحيان. وتعمل وزارة الصحة اللبنانية وجمعية حماية المستهلك والكثير من منظمات المجتمع المدني بالتعاون مع فيونا دلفري الخبيرة البريطانية في مجال صياغة سياسات حظر التدخين، الى الضغط على صانعي قرار «قوننة» التدخين، لإدخال تعديلات «بيضاء» على اقتراح القانون من شأنها ان تخفّف من مضار «علب الموت». المعركة المفتوحة بين القانون وتعديلاته، وبين مصالح شركات التبغ وصحة من يستهلك منتجاتها ومن يقاطعها، تجعل من مطلب حظر التدخين في الأماكن العامة حتى الآن مجرد «سراب». لكن ما يشعر به بعض اللبنانيين، وهم تحديداً نصف المدخّنين منهم، يعطي المعركة طابعاً أكثر حدة. فالفئة المعنية بقرار «الحظر» تتسلح بما يكفي من القناعات كي تبدو مرتاحة الى ان النية شيء والفعل شيء آخر. ويقول كارلوس، الشاب الأربعيني الذي «يبتلع» ثلاث علب من السجائر يومياً: «في أسوأ الحالات إذا تم حظر التدخين في الأماكن العامة، فالغالبية لن تلتزم لاعتبارين أساسيين: من جهة من الصعب إنشاء جهاز خاص لتطبيق القانون يلاحق المواطن في المطاعم والمجمّعات التجارية، ولا نتخيل ان «الشرطي النشيط» في هذه الحالة سيحرّر محضر ضبط بحق المخالف. ومن جهة أخرى سيكون حظر التدخين شبيهاً بفوضى الالتزام بإشارات السير، حيث لألوان الأحمر والبرتقالي والأخضر ترجمة خاصة في لبنان غالباً ما تكون بالمقلوب». وفي وجود دراسات موثقة تظهر ان المقاهي والمطاعم والمجمعات التجارية لا تخسر الزبائن بسبب حظر التدخين، فإن المروّجين لقانون يحمي غير المدخنين والأطفال من مخاطر التدخين السلبي يبنون على هذا الواقع ليخفّفوا من وهج البركان الثائر ضدهم. في الخامس عشر من الشهر الجاري ستُعاد مناقشة المشروع المقدّم الى مجلس النواب، ويراهن الكثير من المنظمات المدنية والصحية، على خروج الأطراف السياسية بالتعاون مع الشركات المستوردة للتبغ إضافة الى إدارة حصر التبغ والتنباك (مؤسسة عامة تابعة للدولة اللبنانية) بتعديلات الحد الأدنى التي تسمح بتطبيق عادل للقانون من دون ان تستثير غضب «الفريق المناهض»، الأمر الذي قد يؤجّل استحقاق وضعه موضع التنفيذ الفعلي. تتحدث ربة المنزل نوال بعصبية زائدة عن زوجها الذي يحمل السيجارة 12 ساعة في اليوم. وتتساءل: «ماذا سأستفيد أنا وأولادي إذا امتنع زوجي عن التدخين في المطعم، وفجّر «حرمانه» داخل المنزل». وتقترح نوال ان تلتزم شركات التبغ بوضع صورة «مرعبة» لآثار التدخين على علبة السجائر، كصورة رئة مشوهة، بدلاً من عبارة «التدخين يضر بالصحة» أو «يؤدي الى أمراض مميتة» التي حفظها المدخنون الى حد أنهم لا يرونها عند إمساكهم بعلبة الموت...». يفترض في نهاية العام الحالي ان يكون لبنان قد دخل منظومة «حظر التدخين في الأماكن العامة»، وفقاً لاتفاق «مكافحة التبغ» الدولي. وحتى يحين أوان الإفراج عن القانون في مجلس النواب فقد بدأت بلدية زوق مكايل، شرق العاصمة بيروت، بمبادرة شخصية منها بتطبيق حظر التدخين في المباني الرسمية التابعة لها، لتكون أول «متطوع» رسمي يلتزم بمعايير الصحة العامة في مبان تابعة للدولة. للوهلة الأولى قد يبدو حظر التدخين في البلديات أمراً قابلاً للاستيعاب من «صقور» المدخنين، لكن الأمر يحتاج الى قدرة استيعابية أكبر، وقد لا تتوافر، إذا تخيّلت أحد المواطنين من مدمني التدخين، محشوراً مع العشرات من المواطنين في غرفة ضيقة، يتأبط معاملته أمام أحد شبابيك صندوق «الضمان الاجتماعي» ومنتظراً لساعات استكمال دورة التواقيع على المعاملة... من دون علبة سجائر في يده. في قاموس العادات اللبنانية «السيئة»، الأمر يبدو من «رابع المستحيلات»!