يؤكد عدد كبير من المثقفين السعوديين والخليجيين والعرب تميز القصيبي وفرادته، عبر مقالات وشهادات ودراسات تناولت لحظات عدة في تجاربه المتنوعة والثرية، جمعتها صحيفة «الجزيرة» وأصدرتها في مجلد ضخم بعنوان «الاستثناء»، ضمن سلسلة تعنى بأعلام الثقافة العربية المعاصرة وشؤونها. يفتتح رئيس تحرير «الجزيرة» خالد المالك المجلد بقوله: «بيني وبين الدكتور غازي القصيبي ملامح لا تنسى من قواسم مشتركة في رحلة العمر لكل منا، فقد توقفنا معاً في محطاتها وأخذنا المسيرة ثانية في فضاءاتها ضمن تقلبات وتغيرات في طقس هذه الحياة كما تفاعل كل منا مع حركة العمل والنشاط فيها في أجواء كان يسودها أحياناً عدم القدرة على ضبط الإيقاع الذي يرضي الناس ويكسب تضامنهم مع ما يفكر به المرء ويراه صحيحاً ومفيداً ومنسجماً مع تفكيرهم أيضاً». وعن الكتاب يقول: «مع صدور هذا العدد من «المجلة الثقافية» عن الدكتور غازي القصيبي – والتي هي أصل الكتاب- يقتضي الموقف أن أقول لكم إن إعداده وإنجازه تطلب من الوقت أكثر من عامين ومن الجهد الشيء الكثير، وهو عمل صحافي وفكري وثقافي مدروس عن قامة ثقافية كبيرة». ننشر هنا مقاطع مما أدلى بها بعض أبرز الكتاب السعوديين والعرب، حول تجربة الدكتور غازي القصيبي شاعراً وروائياً وناقداً ومفكراً، إيماناً بأهمية صاحب «شقة الحرية» وتأكيد كونه استثناء. الغذامي: كسر الحدود في سيرة المتغيرات مذ ظهر القصيبي في ثقافتنا العامة وهو رجل يجمع أكثر من صفة وكأن ظهوره الأول بوصفه شاعراً وأكاديمياً وتلك هي إطلالته الأولى في السبعينات وتبعها صورة الرجل المثقف ذي النظرة الاجتماعية العامة ولم يلبث أن ظهر غازي المسؤول في مصاحبة وثيقة لصورة الشاعر والأكاديمي ثم الكاتب والمفكر ورجل القرارات القوية والضاربة وكل ذلك يجيء على شكل تسلسل درامي وعلى شاكلة حبكة ثقافية هي نموذج سردي اجتماعي حتى صار غازي حديث المجتمع كافة، مثلما هو حديث الخاصة والنخبة الثقافية. كسر غلواء السر الاجتماعي الرسمي لأصحاب المقامات والمناصب الذين يحيطون سرهم بسياج من الحياء والإضمار وكسر الحدود بين الأنشطة، بين الشعر والسرد وبين المنصب والكشف وبين الرسمي والجماهيري، وظهر رجلاً نشطاً ليكسر صورة المتخصص المنكب على نفسه مثلما كسر صورة الرجل الكسول كما تقول الانثروبولوجيا العنصرية عن خمول الصحراء وكسل النفط واستهتارية وتعالي الثراء. سعاد الصباح: الموقف من العمل سفيراً ووزيراً لوزارات مختصة وصعبة إلى الشعر والرواية أنت أمام الشخصية المميزة التي تترك بصمتها حيث تضعها، لتمنحك إبداعاً متنوعاً يتميز بالأصالة ويعبق بروح الطرفة التي يفتقر إليها عالمنا الأدبي، ليظل غازي القصيبي في نتاجه خلاصة لعطاء شخصية مزروعة في الحقل والمدينة والصحراء. يأخذك إلى «العصفورية» أو إلى «شقة الحرية» لتكتشف وأنت تقترب من آخر كلماتها أنك التقيت صاحبها شاعراً في «معركة بلا راية» أو «للشهداء» فتدرك أنك أمام سمة حملها قليلون في عالم الكلمة العربية: الموقف. مثير للجدل في عطائه وعاصف في بيان مراده لذلك واجه الصعب وتحمل واحتمل ولكنه في نهاية المطاف يعود إلى موقع ما يثبت أنه كان طاهر النيّات وصادقها وأنه رقم لا يجوز إهماله في مسار الحياة السياسية والإدارية في وطنه. عبدالعزيز البابطين: جاذبية الغنى الشخصي أول ما يلفت النظر في هذا الرجل الكبير أنه شخصية جذابة وهذه الجاذبية التي تحيط به وتجعله مقرباً إلى نفس عارفيه والمطلعين على سيرته ليست جاذبية غرائبية يسعى نحوها من يحاول أن يخرج عن المألوف لكي يخطف الأضواء وليظل حديثاً على أفواه الناس، بل جاذبية تنبع من غنى شخصيته وتوظيف هذا المعنى في الصالح العام. وأمام هذا الكم الكبير من الوقائع والإنجازات لا بد لأي مطلع واع أن يشعر بالاحترام والمودة لهذا الإنسان الذي بنى لنفسه بإرادة حازمة وبجد متواصل وبخبرة باهرة مكانة كبيرة بحيث أصبح شخصية وطنية وقومية ودولية بارزة على المستويات الإدارية أو الفكرية أو السياسية. مي آل خليفة: الطريق الآخر بين ناجي وغازي اكتشفت أنا الشعر وتتبعت القوافي وأخذتني أبياته إلى أحلام رددت فيها كلماتها كلما تحقق لي حلم مثل أحلام غازي التي رفض يوماً الاعتراف بها: لم أحلم/ ونهاية الأحلام/ درب مظلم/ غضبت عليه الأنجم/ والحالمون توهموا وتندموا». كنت أرى عكس القصيبي بعض الأحلام تتحقق وكانت أبيات غازي وقفات تأمل ولحظات شعور إنساني تجاه هذا الآخر الشامخ الذي أخذني إلى أبي الطيب المتنبي وعرفني إلى الشعر العربي، وهكذا كان لغازي طريق آخر وقواف جعلت من الحلم حقيقة ومن المحبة جسراً يربط بالشعر مملكتين ضرب من العشق لا درب من الحجر/ هذا الذي جاء بالواحات للجزر». محمد الرميحي: «ظاهرة» في جيله غازي القصيبي رجل موهوب ليس فنياً وإبداعياً فقط ولكن أيضاً سياسياً وإدارياً فريادته في الأعمال الإبداعية ترفد ريادته في أعمال الإدارة وفي الاثنين يحمل شخصيتين، هما واحدة ولكل مقام مقال كما يقال في الأمثال السيارة إنه رقيق يتدفق حناناً ويكاد يذوب من الرقة في أشعاره أولاً وأعماله الإبداعية ثانياً، وهو صلب قوي في عمله الرسمي، حازم في الأداء دقيق في التنفيذ. أجمل ما في شخصيته تلك الشفافية التي يتحلى بها مرادفه لروح تحب النكتة ولا يتردد في قولها إذا «حبكت»، إلا أن من عمل معه يعرف على وجه اليقين أن العمل عمل والإنجاز مطلب ملحّ من غازي العملي المنفذ الطموح. لكنه وبسبب تعدد قدراته وبسبب ما مر به من أحداث ظاهرة في نظر جيله من أمثالنا وإن جئنا في السن بعده بسنوات، جيل التحدي وجيل الانتقال من البحر والصحراء إلى دفء التدفق النفطي والبحبوحة الاقتصادية والعولمة. عبدالعزيز المقالح: «مالئ الدنيا وشاغل الناس» قليل هم الشعراء العرب المعاصرون الذين تقترب حالهم من القول المشهور في أبي الطيب المتنبي: «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، ولن أكون مبالغاً أو مجاملاً إذا ما قلت إن الشاعر الكبير غازي القصيبي يعد واحداً من هؤلاء القلائل الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس لا بوصفه شاعراً مميزاً وواحداً من رواد التحديث الشعري في الجزيرة العربية فحسب، وإنما بوصفه أيضاً روائياً وكاتباً وسياسياً مرموقاً يدرك خطورة الكلمة ويعترف بما لها من قيمة عالية في الحياة، وبما تحمله من طاقات التثوير والتنوير والإصلاح ومقاومة الجمود والتقليد وبناء الإنسان واغتناء وجدانه، سواء كانت الكلمة شعراً أم نثراً أدباً أم فكراً. فاروق حسني: فارس الحرية اعتزاز القارئ العربي بالقصيبي يرجع إلى أنه كاتب قومي بكل معنى الكلمة، حالم بمستقبل أفضل للأمة العربية، مستقبل ينقلها من واقعها الغارق في شروط الضرورة والانكسارات القومية إلى وعود مستقبل التقدم الذي تلازمه صفات الحرية بكل أنواعها والعدالة بكل تجلياتها والاستنارة بكل علاماتها، ولا يتردد غازي القصيبي في تأكيد انتمائه إلى المستقبل الذي يرفض الواقع المهيض والحاضر البعيد عن أفق الأحلام بكل وسيلة تعبيرية ممكنة، ابتداء من كلمات الشعر الذي ينظمه احتجاجاً ورفضاً ومقاومة، مروراً بكتابة الرواية التي تفتح له أبواب الذاكرة على المستوى الشخصي، وتضع الواقع العربي في لحظاته المتعاقبة موضع المساءلة، وكل ذلك من دون أن ينسيه الشعر كيفية العزف الآسر على أوتار وجدانه التي تصدر أعذب الألحان التي تتنوع فيها المشاعر الإنسانية في فراديسها الخاصة، ولذلك صار القراء العرب ينجذبون إلى ما يكتبه القصيبي نثراً ونظماً، لأنهم يعلمون أنه رجل لديه ما يقوله وما ينفع الناس وما يثري وجدان القراء وعقولهم على السواء. محمد بنعيسى: الثبات على العهد والمبادئ إن السلوك الفكري المتأصل في طبع الأديب والمثقف غازي القصيبي يحفز نحو محاولة القيام بإطلالة على جزء من عوالمه الداخلية لملامسة سجايا وخصال نعتقد أنها لصيقة بشخصيته الودودة المنفتحة على الحياة والمعرفة الإنسانية. وفي طليعة هذه الخصال الصدق بما تعنيه هذه الفضيلة الخلقية النادرة من شجاعة في الرأي وثبات على العهد والمبادئ وجرأة في قول الحق والجهر به ومواجهة العواصف الظالمة حتى لو كلف ذلك السلوك صاحبه التضحية بعلاقات وصداقات غير مبنية على أساس متين، وإذا كان وهو سلوك مثل الذي ذكرناه غير مستغرب من مثقف مستقل متحرر من القيود والالتزامات الرسمية كافة، غير آبه بالأعراف الاجتماعية التي تستلزم الانتباه والحيطة ومراعاة الاعتبارات، فإن إعجابنا سيزداد حقاً بقدرة القصيبي الخارقة على التوفيق بين بزوغ المثقف الحر الذي يسكنه الحريص في كل الأوقات على عدم التفريط في صوته الخاص وبين إسناده المهام الرسمية بما تقتضيه من الانضباط للموقف السياسي العام وتقليص مساحة الحرية الشخصية إلى حد معقول لا تذوب معه شخصيته. طلاس: المزاوجة بين الوجدان والمحيط أرى أن القصيبي من خلال إنتاجه الشعري والنثري يملك رؤية واعية لواقعنا العربي الاجتماعي والسياسي وما يحفل به من هموم ومخاوف. وأنه استطاع أن يزاوج بين وجدانه ومحيطه، وكثيراً ما كان وجدانه في الشعر خصوصاً في الحب يشكل إطاراً للحديث عن معاناته الإنسانية فشعره مميز بالصدقية، إذ يعبّر في جانب منه عن الذاتية الحالمة الحزينة الهاربة من الواقع المرير إلى التطلع لعالم القيم العليا الراغبة في تقويم حياة المجتمع وإصلاحه. يظل شعره على رغم خصوصية البيئة والتطلعات جزءاً من حركة الشعر في الوطن العربي في تطوره شكلاً ومضموناً وفي تطوره كان خروجاً عن التقليدي خصوصاً بعد تأثره بالدعوة إلى الواقعية والالتزام في الأدب. النقاش: الموسوعية ضد ما بعد الحداثة غازي القصيبي مثقف شامل موسوعي المعارف والخبرات متعدد المواهب، وهو نوع نادر من المثقفين في زمن ما بعد الحداثة، إذ يجري في هذا الزمن الإعلاء من شأن التخصص الدقيق. وفي مواجهة ذلك تنتشر العلوم البينية التي تؤذن بنهاية العلوم المتخصصة، في حين أن ما بعد الحداثة تعمل على تجزئة الثقافة وتشظيها. وإضافة للدور الذي يلعبه هذا النوع من المثقفين الموسوعيين في صد الهجمة ما بعد الحداثة بالمعنى السلبي والضيق لما بعد الحداثة، فإنه يلعب دوراً بنائياً في إعادة ربط كل القضايا ببعضها البعض عبر رؤى وأفكار، ومن ثم تأسيس وعي شامل بهذا الترابط وإعادة الوحدة لعالم يتفكك.