قبل سنة تقريباً، شهد عالم الصناعة المتقدّمة فورة قويّة في تقنيّة تعرف باسم «الصِناعة بالطباعَة الثلاثّية الأبعاد» («3 دي برينتنغ» 3D Printing). وشاركت آلاتها في معرض «سيبت هانوفر 2014» (انظر «الحياة» في 16 آذار- مارس 2014) للمرة الأولى. وتعني مشاركتها في هذا المعرض التقني أنها باتت جاهزة للانطلاق إلى الأسواق على نطاق تصنيعي واسع. بقول آخر، تعني المشاركة أنها انتقلت من ابتكار تقني يعطي منتجات مبتكرة وقليلة، لتصبح آلات منخرطة في عملية التصنيع الواسع النطاق. وشرع غير مصنع في إنتاج قطع غيار للآلات والمعدات الإلكترونيّة والأدوات الروبوتية المؤتمتة التي تستعمل في السيّارات التقليدية والهجينة والكهربائية وغيرها. عقول الرصف الإبداعي ترتكز «الصناعة بالطباعَة الثلاثّية الأبعاد» على آلات تعرف باسم ال «فورمرز» Formers، وهو اسم يشير إلى أنها آلات تصنع منتجاتها بصورة تركيبية، فكأنها تبتدعها. وفي هذا الإطار، طوّرت العقول الألمانيّة المُبدِعَة آلة متقدّمة حملت اسم «فري فورمر» Free Former. وصُمّمت ال «فري فورمر» لتخدم غايات صناعيّة محدّدة، بمعنى أنها تتخصّص في إبداع منتجات محدّدة بما يمكّنها من إنتاجها بصورة واسعة. وصنعت شركة «آربورغ» الألمانية الآلة. وزوّدتها بمصدر للمادة الخام يدعى «آربورغ بلاستيك فري فورمينغ». وتأخذ الآلة بيانات ثلاثية الأبعاد تركّبها برامج كومبيوتر متطوّرة . وتستخدم الآلة تلك البيانات كي تصنع أجزاء من البلاستيك السائل بصورة مباشرة، بمعنى أنها لا تحتاج إلى أن تصب في قوالب مجهّزة سلفاً! وتتضمن ال «فري فورمر» فتحة ثابتة ترشّ «غيمات» من البلاستيك التي تتراكم تدريجياً على منصة متحركة. ثم تتكرّر هذه العملية إلى أن يجري التوصّل إلى الشكل النهائي للمنتج المطلوب. وتحمل تقنية الرش بالبلاستيك السائل اسم «تكنولوجيا بيزو»، بالإشارة إلى اسم الشركة الألمانيّة التي ابتكرتها. توصف الصناعة طباعيّاً «ثري دي برينتنغ» بأنها صناعة بالتركيب. ويسلك تطورها مساراً مختلفاً بين البلدان المتقدمة والأقل نموّاً. ففي البلدان الغربية، تؤدي هذه الصناعة التقنية التي تتلاءم تماماً مع انتشار الروبوتات في المصانع، إلى تحسّن الإنتاج، وكذلك فإنّها تزيد حاجة المصانع إلى عمّال من أصحاب التعليم التقني المتقدّم، ما يعني أيضاً أنها أنها زادت الفوارق بين المتمكنين تقنيّاً والأقل تمكّناً. وعلى نطاق واسع، يسود توقّع بأن تساهم «الصناعة بالطباعَة الثلاثّية الأبعاد» في تخفيض حركة نقل الصناعات الى البلدان النامية. وحاضراً، هناك ازدهار واضح لنقل الصناعات إلى بلدان العالم الثالث، سعياً للاستفادة من رخص الأيدي العاملة في تلك البلدان، سواء أكانت أيدي عاملة عادية أو تقنيّة ومتقدّمة علميّاً. عن البعد الاجتماعي في السياق عينه، توقّعت غير مؤسسة غربية كبرى أن تؤثّر «الصناعة بالطباعَة الثلاثّية الأبعاد» على ظاهرة التقاصر في حركة الإمدادات بالسلع، بمعنى قصر دورة انتقال المنتج من المصنع إلى الأسواق العالميّة. وشهدت تلك الدورة تسارعاً مستمراً على أثر تطوّر النقل بالطاقة النظيفة وزيادة الاستثمار في المشاريع الكبرى للنقل، على غرار شق قناتي السويس وبنما، وفتح نفق تحت بحر المانش، ومد خطوط كبرى للسكك الحديدية التقليدية والسريعة في الصين، ومدّ خطوط سكك صناعية بين الصين وأوروبا وغيرها. في المقابل، لا تتردّد مراكز الدراسات الكبرى، على غرار «معهد بروكينغز» و «مشروع القرن الأميركي الجديد»، في القول إن انتقال «الصِناعة بالطباعَة الثلاثّية الأبعاد» إلى البلدان العالمثالثية الأقل تطوّراً، يزيد في حدّة الصراع الاجتماعي فيها، خصوصاً في البلدان الآسيوية. وتتحدّث تلك المراكز أيضاً عن قرب حدوث «ثورة صناعيّة جديدة» في العالم الثالث، بأثر من «الصِناعة بالطباعَة الثلاثّية الأبعاد»، متوقّعة ارتفاعاً في نوعية المنتجات ودرجة تطوّرها تقنيّاً. وفي آفاق مستقبلية، يتوقع خبراء غربيّون كثيرون أن تساهم «الصِناعة بالطباعَة الثلاثّية الأبعاد» في إنتاج أدوات ربما تحدث تقدّماً سريعاً في التكنولوجيا المتصلة بالحِفاظ على الموارد الحيوية، على غرار الأجهزة اللازمة في تقنيات الحصول على محاصيل معدّلة جينياً، والزراعة الدقيقة، وتقنيّات الريّ، وطاقة الشمس، وتحسين طرق استخراج الغاز الطبيعي بطرق أكثر توافقاً مع البيئة وغيرها. وفي السياق عينه، من المتوقع أن تضع «الصِناعة بالطباعَة الثلاثّية الأبعاد» في أيدي الأطباء أدوات ومعدّات ربما مكّنتهم مستقبلاً من تحسين الرعاية الصحية وأساليب مكافحة الأمراض، بل لعلها تساهم بطريقة غير مباشرة في ظاهرة الارتفاع المستمر في معدّلات الأعمار عالميّاً.