ليست المرة الأولى التي تقوم فيها جهات حكومية مثل وزارة الداخلية العراقية بالهجوم على النوادي الليلية في بغداد وإغلاقها بعد ضرب واعتقال مجموعة من مرتاديها، والحجة ذاتها تستخدم في كل مرة وهي إنها لا تملك تراخيص رسمية. لكن الهجمة الأخيرة التي سميت «غزوة النوادي» هي الأولى التي تحدث في ظل حكومة رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي. وحملت الغزوات السابقة على النوادي ومحال بيع الخمور الشعارات نفسها، لكن مرتكبيها كانو متنوعين بين متشددين سنة في المناطق التي تقطنها غالبية سنية في المحافظات، وميليشيات شيعية في مناطق أخرى، كما أن بعض الغزوات نفذتها جهات حكومية أيضاً. وكان للجميع دور لافت في هذه القصة ابتداء من التيار الصدري، ومروراً ب «عصائب أهل الحق» ومجالس المحافظات السابقة في بغداد وبابل وانتهاء بوزارة الداخلية وأطراف أخرى، وكانت كل غزوة من تلك الغزوات تحمل اسم اليوم الذي تقع فيه وآخرها «غزوة الثلثاء» التي قامت بها وزارة الداخلية في شكل علني. القوات التي دخلت إلى النوادي والمطاعم، وبعضها كان داخل فنادق كبرى في بغداد، كانت تبدو وكأنها تبحث عن معارضين لنظام دكتاتوري أو تهدف إلى اعتقال خلايا إرهابية تخطط لضرب البلاد في لحظة حرجة، في حين إن معظم الذين تعرضوا للضرب والاعتقال والشتم كانوا من «عالم آخر» كما وصفهم كثيرون. بمعنى ان السياسة وشؤونها آخر همومهم والإرهاب آخر ما يخطر في بالهم. تأييد تلك الغزوات أو معارضتها من أي شخص يعني تلقائياً نقل المعركة الى مواقع التواصل الاجتماعي تماماً مثلما يحدث في كل مرة. فالمؤيدون يرون في وجودها «إساءة للدين وللآداب العامة ويجدونها خطوة جيدة لتقويم الدين» أما المعارضون فيعتبرونها «خطوة الى الوراء في مجال الحريات الخاصة والعامة» التي كفلها الدستور العراقي الدائم في البلاد. لكن النقاش في الموضوع على «فايسبوك» يتعدى هاتين العبارتين المهذبتين إلى تبادل المسبات والتوغل في الألفاظ البذيئة التي تستحضر فيها الإخت والأم وكل إناث العائلة على جدران الصفحة الزرقاء من دون أن يفكر صاحبها في وقعها على متلقيه. واللافت ان اللغة المتدنية لم تقتصر على بعض الشباب الطائش، بل إن كثيرين من «زملاء المهنة»، ومن يحسبون على المثقفين وبعض من هم على درجة عالية أو متوسطة من الوعي تساووا في تعابيرهم غير المهذبة على «فايسبوك» مع الرعاع. فهؤلاء لم يتوانوا عن شتم بعضهم بعضاً بأقذع الأوصاف لا لشيء إلا لأنهم يؤمنون بفكرة معينة يريدون فرضها على الآخرين باسم الديموقراطية وحرية التعبير. ويبدو شباب العراق من الجيل الفتي أكثر تحضراً ونضجاً من مثقفيه وساسته وأدبائه حينما يتناقشون في تلك المواضيع، فيبدي الكثيرون منهم انفتاحاً أكبر في سماع رأي زميل حول موضوع الغزوات، لكنهم يحتفظون في رؤوسهم بصور تلك الغزوات التي وقعت بعد عام 2003. أما الأكبر سناً فلهم ذكريات أخرى مع الموضوع تبدأ منذ سبعينات القرن الماضي حينما كان «خير الله طلفاح» خال الرئيس العراقي السابق صدام حسين يشرف على شؤون بغداد ويدعم مجاميع تقوم بسكب الألوان على أجساد الفتيات اللواتي يرتدين فساتين قصيرة، ثم الحملة التي قام بها وزير الداخلية السابق سمير الشيخلي في ثمانينات القرن الماضي ضد الشباب الذين يرتدون السروال الضيق ويطيلون شعورهم. وكانت هناك مجموعات تقوم بقص الشعور في الشارع وتمزق السراويل وتعتقل المعترضين على الأمر وكأنها تعتقل إرهابياً. وفي عقد التسعينات قام صدام حسين بحملات مشابهة، ختمها بالحملة الإيمانية لتأتي حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وتقوم بالحملات نفسها. وعلى رغم تعدد الأطراف الفاعلين بين متشددين دينيين وميليشيات وإرهابيين كان للحكومات لها الدور الأكبر في هذا المضمار مع ان معظم رجالاتها ومسؤوليها الأمنيين يمسكون بمسابحهم نهاراً ويطلقون مواعظهم أمام الشعب، وقادتها الأمنيين الذين يطبقون القانون نهاراً يرتادون تلك النوادي نفسها للسهر والمرح ليلاً ويوفرون حماية خاصة للكثير من النساء اللواتي يعملن بشهادات أصحابها. تاريخ بغداد يعيد نفسه وغزواتها لن تنتهي لا بل هي مرشحة للازدياد طالما زاد عدد السياسيين والأحزاب الميلشيوية وعدد المتسترين بالدين.