«السلام عليكم جميعاً، هذه المدونة ستعود بعد أيام قليلة». بهذه العبارة تفتتح الصفحة الرئيسة لمدونة أنور العولقي (www. anwar-alawlaki.com) التي حجبت على ما يبدو عن شبكة الانترنت بعد ارتباط اسمه بأحدث عمليتين إرهابيتين تعرضت لهما الولاياتالمتحدة: حادثة قاعدة فورت هود العسكرية في تكساس التي نفذها المجند في الجيش الأميركي نضال حسن في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009 ومحاولة الشاب النيجيري عمر فاروق عبدالمطلب تفجير رحلة «نورث ويست» 253 المتجهة الى مدينة ديترويت عشية عيد الميلاد. أما صفحة العولقي على موقع فايسبوك والتي تضم أكثر من 5 آلاف صديق و «معجب»، فهي محجوبة بدورها. إذا أمكن اعتبار تجميد الموقعين مؤشراً يرجح فرضية موته في غارة أميركية على جبال شبوة في اليمن حيث يعيش العولقي منذ 2004 وهو خبر تداولته بعض وسائل الإعلام، فإن وجود مدونة رديفة ناشطة تقوم بالواجب «الدعوي» والجهادي (www.imamawlaki.blogspot.com) يشي بالعكس. والواقع أن المتصفح لا يستدل بسهولة إلى هذه المدونة عبر محركات البحث العنكبوتية، بعكس المدونة الاولى «الأصلية»، لكن الأخيرة لا تقل صدقية عن الأولى من حيث المضمون على الأقل. صحيح أنه لم يتم تحديثها منذ فترة وأنه كتب عليها ملاحظة تفيد بأنها «ليست الموقع الرسمي للداعية العولقي»، لكنها تنشر رسائل العولقي وكتاباته كاملة إلى جانب صور ورسوم وأغلفة تسجيلات صوتية له حتى تكاد تكون موقعاً رسمياً له. وفي فضاء تتقاطع فيه الوقائع الحقيقية بالمؤشرات الافتراضية لا يهم كثيراً إن مات العولقي ومعه مدوناته، أو نجا من القصف بحسب تقارير نفت مقتله ونقلتها وسائل إعلام أميركية منها شبكة «سي بي إس» وشبكة «سي إن إن». ذلك أن كتاباته وأفكاره لا تزال تغذي المواقع الإسلامية والجهادية التي لم تحذف منها شيئاً. ولعل أهم تلك المؤلفات كتيب بعنوان «44 سبيلاً لدعم الجهاد» الذي يعتبر بمثابة دليل عملي مبسط لأي «مجاهد عصامي». وأكثر من ذلك، لا يزال نجم العولقي ساطعاً على لوائح «الدعاة المفضلين بين الشباب» الناطقين بالانكليزية على تلك المواقع ومنها «إسلام أونلاين» حيث تحظى آراؤه بعدد غير قليل من التعليقات والردود (وللإشارة، فإن موقع اسلام اونلاين. نت يختلف عن شبيهه إسلام أونلاين. كوم). لذا فإن تناقض الأخبار في شأن مقتله إنما يزيد شخصيته غموضاً وجاذبية بين مريديه، ما جعله يستحق عن جدارة لقبي «بن لادن الانترنت» و «مترجم الجهاد». والواقع أن اسم العولقي طفا على السطح مع الحادثين الأخيرين بعدما تبين وجود 18 رسالة إلكترونية بينه وبين نضال حسن، واعتراف عمر فاروق عبدالمطلب بأنه «مرشده الروحي». إلا أن هذا الشاب اليمني، المولود في أميركا، ارتبط اسمه بعدد غير قليل من الخلايا والتنظيمات الإرهابية بما يترك الكثير من الريبة حوله وحول أداء الأجهزة الأمنية، لا سيما ان تلك العلاقة لم تخف عن الأجهزة، بل هي التي كشفتها. فمع تفجيرات 11 ايلول (سبتمبر) 2001، لفت العولقي انتباه مكتب التحقيقات الفيديرالي، نظراً إلى أن 2 من خاطفي الطائرات وهما نواف الحازمي وخالد المحضار كانا يترددان إلى مسجد «الرباط» الذي كان هو إمامه في سان دييغو (ولاية كاليفورنيا)، وكان يختلي بهما فترات طويلة بحسب ما افادت تقارير لجنة التحقيق في أحداث 11 أيلول. في تلك الفترة شغل العولقي منصب نائب رئيس جمعية إسلامية خيرية، تابعة للشيخ عبدالمجيد الزنداني، تبين لاحقاً أنها الفرع الأميركي لمختلف نشاطات الزنداني التمويلية والدعوية. واللافت أن علاقته بالزنداني لم تتوقف حتى بعد وضع الأخير على لائحة «الإرهابيين العالميين» في 2004. ففي تلك السنة انتقل العولقي نهائياً إلى اليمن وراح يدرس في «جامعة الإيمان» التابعة للزنداني التي تخرج فيها أول طالباني أميركي هو جون ووكر ليند والذي تأثر بقراءات للعولقي ويرجح أن يكون التقاه في مسجده في كاليفورنيا ولاحقاً في زياراته إلى اليمن، قبل أن ينضم ليند إلى «الجهاد» في أفغانستان. في كانون الثاني (يناير) 2001 انتقل العولقي إلى محيط واشنطن العاصمة حيث شغل منصبين لا يستهان بهما أيضاً. فكان إمام مصلّى جامعة جورج واشنطن التي تسجل فيها طالب دكتوراه مستقطباً أعداداً كبيرة من الطلاب المسلمين والمعتنقين الجدد، إلى جانب كونه إمام أحد اكبر مساجد أميركا على الإطلاق وهو مسجد «دار الهجرة» في ولاية فيرجينيا المحاذية لواشنطن. كانت صلاة الجمعة فيه والخطب الحماسية التي يلقيها العولقي تجذب أكثر من 3 آلاف مصلٍ أحياناً، بينهم خاطف ثالث من منفذي 11 أيلول هو هاني حنجور. وعلى رغم تلك المعلومات، بقي العولقي في عمله هذا حتى 2002 ثم غادر إلى بريطانيا وبعدها إلى اليمن في أواخر 2004. خلال هذه السنوات، لم يخف نشاط هذا الكائن العنكبوتي، لا في الفضاء الافتراضي ولا في الواقع. فتلك الفترة شهدت غالبية كتاباته على الانترنت، التي دعمها بلقاءات «واقعية» ساعده في عقدها جواز سفر أميركي سهل حركته عبر المطارات وشهادات عليا فتحت له أبواب الجامعات والمراكز الإسلامية في أميركا وبريطانيا. فحضر «ضيف شرف» أكثر من مرة في ندوات ومحاضرات في مساجد لندنية أبرزها «مسجد التوحيد» بين أوائل 2002 وأواخر 2003. حاك العولقي خيوطه في أكثر من اتجاه. هي خيوط تشبه الشبكة العنكبوتية نفسها... شفافة رقيقة، ولكن متينة وقابلة للاتساع طالما يسمح نشاط العنكبوت. والعولقي لم يخنه نشاطه، فإضافة إلى كشف علاقته المتينة برمزي بن الشيبة الخاطف العشرين في عمليات 11 ايلول بعد تفتيش شقته في هامبورغ (المانيا) والعثور على رقم جواله في دفاتر الشيبة الشخصية، تبين لاحقاً أن خيوطه طاولت أيضاً منفذي تفجيرات لندن في 7 تموز (يوليو) 2005، الذين ترددوا إلى مجالسه وتصفحوا مدونته. وإلى ذلك كان شديد الصلة بعلي التميمي الذي صدر بحقه حكم بالسجن المؤبد في أميركا لتجنيده «مجاهدين» لإرسالهم إلى أفغانستان وتدريبه 11 شاباً أميركياً على إلقاء القنابل أو ما يعرف ب «خلية فيرجينيا». هذه عينة من نشاطات العولقي المتشعبة، حتى إن تقرير لجنة التحقيق في أحداث 11 أيلول، يفيد بأن أثر أعماله بلغ تنظيم «عسكر طيبة» الباكستاني، فكانت محاضراته التي يصورها ويبثها على مواقع «يوتيوب» و «ماي سبايس» أشبه بمعسكرات تدريب افتراضية. تحركات العولقي أثارت الشبهات، لكن الأجهزة لم تستطع أن تمسك ضده دليلاً ملموساً واحداً. فتم توقيفه مرتين أو ثلاثاً لمخالفات صغيرة تمكن من أن يخرج منها بكفالات ضئيلة، لكنها لم تكن كافية لمنعه من السفر وهو يعرف ذلك جيداً. فعندما اعتقل في صنعاء نحو 18 شهراً بين 2006 و2007 وأعيد الإفراج عنه بضغوط من عشيرته، كتب على مدونته «أتحدى من يمسك ضدي دليلاً واحداً». ادعى حينذاك ان السلطات اليمنية سجنته بتحريض من الاستخبارات الأميركية، ما رفع أسهمه مرة أخرى في ساحات «الجهاد» الافتراضي. ليس ورود اسم العولقي في كل تلك الأحداث وغيرها مما لم يذكر في هذا السياق محض صدفة. فهو على ما تبين لاحقاً شخصية أساسية في التجنيد والتدريب الإلكتروني، أتقن لعبة الأجهزة الأمنية واستفاد من كامل حقوقه في مواجهتها. لعب على خيوط عنكبوته بخفة ورشاقة إلى أن تضخم ملفه الأمني فاختفى كلياً منذ آذار (مارس) 2009 شأن الزعيم «الفعلي» بن لادن. وبمتابعة كتابات العولقي على الشبكة وردوده على متصفحي موقعه التي حرص عليها حرصاً شديداً، تتكشف نواح من شخصيته تفسر صعوده السلّم «الجهادي» بهذه الثقة. فهو يجمع في شخصيته ميزات 3 أجيال من «القاعديين». الجيل الأول المؤسس من قادة ومنظّرين مثل أسامة بن لادن ونائبه ايمن الظواهري، وهؤلاء أبناء مترفون لطبقات اجتماعية واقتصادية عليا، تلقوا تعليمهم في جامعات غربية نخبوية. وجيل ثان أقل زهداً وأكثر عملانية وقدرة على الحركة، عناصره ينتمون إلى طبقات متوسطة ودنيا، انضموا إلى الموجة الجهادية أواسط التسعينات وأواخرها بدافع نضالي وشعور بالواجب تجاه «إخوانهم المسلمين» في البوسنة والشيشان وكشمير والفيليبين. وهؤلاء أضفوا على التنظيم صبغة الحركة النضالية الاجتماعية فجاءوه من مشارب مختلفة وتجارب غير منسجمة في الدين والسياسة، وكانوا تنفيذيي التنظيم وليسوا المنظّرين فيه. أما الجيل الثالث والأكثر حداثة فهو الذي برز في شكل أساس بعد حربي أفغانستان والعراق بالتزامن مع ذروة ثورة الانترنت. هؤلاء «صعاليك القاعدة» إذا صح التعبير والعصاميون فيها، الذين نشطوا كأفراد أو ضمن مجموعات صغيرة عملت بمثابة فروع للمؤسسة الأم التي تشظت هيكليتها التنظيمية فيما هدمت معسكرات التدريب في أفغانستان وباكستان. العولقي كان كل ذلك. كان ابن وزير في اليمن وسليل عشيرة ثرية، درس في أميركا فأتقن الإنكليزية كتابة وخطابة، ما مكنه من التواصل بيسر مع بيئة طالبية نخبوية داخل الجامعات ومراكز الدراسات، وبيئة متدينة أقل تكلفاً في المساجد وعلى مواقع الانترنت. وهو إلى ذلك لا تنقصه الحماسة ولا يخلو سجله من جنح كتزوير أوراق والسفر مع مومسات عبر الولايات، وهو ما يعاقب عليه القانون الفيديرالي. وهذا التفصيل وإن بدا عابراً في حياة شاب بعمره، إلا أنه ليس من دون دلالة في هذا السياق. وفي هذه الأثناء بقيت معسكرات اليمن بمأمن وسط نفي رسمي دائم لغياب اي نشاط للقاعدة في الأراضي اليمنية، فكان لا بد من الاستقطاب والتدريب النظري على الشبكة، استعداداً لتدريب تطبيقي في تلك الجبال، وهو الدور الذي اضطلع به العولقي. ومن دهائه أن ظلّ فترة طويلة مقدماً نفسه ك «مترجم الجهاد» وليس صاحب الأفكار الداعية اليه. فلم ينشر آراءه الشخصية ولم يوقع باسمه ما يمكن أن يطاوله من طرق «الجهاد» وإعداد العدة له إلا في وقت متأخر من نشاطه الدعوي والتجنيدي، بعدما كان انتقل إلى اليمن وتوارى عن الأنظار. فظهر دليله بعنوان «44 سبيلاً لدعم الجهاد» في كانون الثاني (يناير) 2009 وكان بمثابة خلاصة تجربته ونوعاً من الوصية في حال قتل وقد ضاق الخناق عليه. ومثلما استقطب عمر بكري مئات الشبان المسلمين في بريطانيا إلى حركة «المهاجرون» (التي حظرت في 2004) عبر تقديم نفسه كمرشد ومعلم للناطقين بالإنكليزية فترجم لهم كتابات لم تتوافر حينذاك إلا بالعربية والأوردو، كذلك فعل العولقي. نقل إلى قرائه نظريات ومنشورات لم تكن في متناولهم من قبل. وليرفع شأنه بين متصفحي مدونته، وسعياً لكسب ولائهم واحتكارهم، كتب يقول لهم: «الأدبيات الجهادية متوافرة بالعربية فقط ولا يخاطر أي ناشر بترجمتها لكم. الجهة الوحيدة المنكبة على نقلها إلى الإنكليزية هي الأجهزة الأمنية الغربية. ولكن لسوء الحظ لن تشارككم إياها». كرس العولقي نفسه كداعية له احترامه، قاطعاً الطريق في كل مرة على أي محاولة للتشكيك في تحصيله العلمي الديني. فهو لم يدرس على شيخ وإنما حصّل ثقافته باجتهاد شخصي كما قال ذات مرة عن نفسه. محطة أخرى في سلّم العولقي تلفت الانتباه في صعوده الإلكتروني الواثق والثابت، هي تزامن نجوميته النسبية مع نشاط شركة «السحاب» في إنتاج تسجيلات موجهة الى الناطقين بالإنكليزية. نجم تلك التسجيلات كان الأميركي الذي اعتنق الإسلام آدم بيرلمان المعروف ب «عزام الأميركي» أو «أبو صهيب الأميركي» وهو صار في تلك الفترة أشبه بناطق رسمي لتنظيم «القاعدة» بالإنكليزية. لم يظهر العولقي في تسجيلات «السحاب»، ولا اي رسالة «رسمية»، ولا شك في أنه ضمنياً شعر بأحقيته في تبوّء هذا المنصب بين الجمهور الغربي. فهو عربي ينطق بلغة القرآن وليس حديث العهد بالانتماء الى الدين، كما انه متمكن من الإنكليزية. خلاصه كان في الاستفادة من التكنولوجيا التي سهلت مهمته الإلكترونية، كما سهل كونه أميركياً لا يثير الشبهات مهمته الميدانية. أنشأ مدونة، وسجل خطبه على أقراص مدمجة وطرحها في السوق حتى لم تخل منها مكتبة دينية في أميركا، ثم عاد وحملها على مدونته فصارت متوافرة مجاناً. وما كاد يبرز موقع «يوتيوب» حتى استثمره أيضاً ساحباً البساط من تحت الإعلام التقليدي للقاعدة. فهو في النهاية لا يحتاج ليحرك خيوط لاعبيه الى أكثر من لابتوب... وإنترنت!