ليس المخرج الانكليزي مايكل وينتربوتوم (1961) واحداً من أغزر المخرجين الغربيين المعاصرين إنتاجاً فقط، بل يكاد يكون الأكثر تنويعاً وتنقلاً بين الأنواع السينمائية. فهو يقفز من التسجيلي الى الروائي، ومن أفلام السيرة الذاتية الى الواقعية البريطانية، فيما يجرب أحياناً أفلمة كتب كانت مستعصية على السينما. كما أن له علاقة وثيقة بالكوميديا البريطانية الخاصة التي يقدمها بين الحين والآخر. وإذا كان يبدو في بعض أفلامه مخرجاً محلياً مهموماً بقصص ونماذج إنسانية من بلده، فإنه في أفلام أخرى يحسب على فرسان سينما العالم القاتم الذي نعيش فيه، مقدماً من أطرافه المجهولة قصصاً مؤثرة لها أصداء في أكثر من ثقافة. تثوير الأنواع واذا كانت هناك سمة خاصة تميز سينما وينتربوتوم، فهو بحثها الذي لا يتوقف عن تخوم جديدة داخل أُطر الأنواع السينمائية التي تندرج تحتها أفلامه، والرغبة المتواصلة في تثوير هذه الأنواع، فهو جَرَدَ فيلمه «في هذا العالم» من إثارة وبهجة أفلام الطريق المعروفة التي ينتمي إليها، لتبيان قساوة الرحلة التي قطعها صبيان من أفغانستان الى بريطانيا طلباً للجوء. فيما يترك فيلمه الآخر «تسع أغنيات» أسئلة إسلوبية من دون إجابات عن ما يُمكن للسينما نقله من العلاقات الحميمة لأبطالها، وعن قدرة نقل الفعل الجنسي من موقع التصوير الى الشاشة وبعدها الى الجمهور، من دون أن يربك هذا الفعل إنتباه المشاهد ويبعده عن فهم تعقيد العلاقات العاطفية البشرية للشخصيات. كما سبق بفيلمه «كل يوم»، فيلم «صبا» للأميركي ريتشارد لينكليتر، لجهة التجريب في التصوير على مدار ست سنوات وبنفس طاقم الممثلين لمحنة عائلة بريطانية. في فيلمه الجديد «وجه الملاك» والذي يعرض حالياً في عدد من الدول الاوروبية، يخوض المخرج البريطاني مرة أخرى في مياه مجهوله عليه. فهو يقدم قصة جريمة حقيقية وقعت في ايطاليا عام 2007، ولم يتم معرفة جميع ملابساتها لليوم (قتلت حينها ومن دون أسباب واضحة طالبة بريطانية كانت في سنة إعارة في جامعة ايطالية وتم إتهام ثلاثة من زملائها في شقة الطلبة التي كانت تعيش فيها بالمسؤولية). أي أن المخرج يتصدى لأحداث كثير منها مجهول للقضاء والشرطة على حد سواء، كما أن تداعيات هذه القضية ما زالت متواصلة لليوم، فقبل أشهر قليلة فقط تمت تبرئة إثنين من المتهمين الرئيسين، في الوقت الذي يواصل الإعلام الغربي هوسه بالجريمة والذي بدا بعد أيام قليلة من وقوعها ويستمر بهمة عالية منذ ذلك الحين. يستند الفيلم على كتاب باسم «وجه الملاك: القصة الحقيقية للطالبة القاتلة أماندا نوكس» للصحافية باربي ندازا نادو. لكنه يخلق عالماً خيالياً واسعاً حول تفاصيل الجريمة التي جاءت في الكتاب. فالفيلم عن مخرج اوروبي كُلف بإخراج فيلم عن الحادثة، وما يواجهه من مشاق لإيجاد المقاربة المناسبة لفيلمه. هو إذن فيلم داخل فيلم، وأسئلة المخرج الخياليّ هي ذاتها التي يواجهها أي مخرج ينوي تقديم مبتكر لحادثة حقيقية بمفاعيل متواصلة. يقدم الفيلم المخرج الشاب والغاطس في متاعب شخصية وهو يصطدم مراراً بأسئلة السينما وأحيانا بتلك التي تخص الجريمة الحقيقية. ليبدو الفيلم من جانب يشبه أزمات الكتّاب عندما يتعثرون في العثور على شعلة إبداعهم. كواليس الإعلام يتفاوت الإهتمام بالجريمة الشهيرة في الفيلم، فبعد المقدمة التي ركزت على كواليس التغطيات الإعلامية الغربية للحادثة، يأخذ الفيلم مسارات مختلفة، فيركز على المخرج، الذي تسيطر عليه كوابيس وخيالات، بعضها بسبب الكوكايين الذي عاد إليه. كما يقابل المخرج فتاة بريطانية شابة تعيش في ايطاليا، لتساعد هذه وعلى نحو ما في طرح السؤال الذي تَعَسَّرَ الفيلم وهو يحاول تنميقه، عن الهوس الشعبي الكبير بالجرائم التي تصيب فتيات من الطبقة الاوروبية المتوسطة، وكيف أنها تتحول الى مجاز عن أزمات مسكوت عنها لهذه الفئة، ومكانة الجنس، المحرك الخفي لكل هذا الإهتمام، في كل ذلك. بعد منتصف الفيلم يتأكد أن أزمة المخرج الخياليّ لا تختلف عن تلك للمخرج الفعليّ لفيلم «وجه الملاك»، بخاصة عندما يحاول الفيلم أن يبحث في الفلسفة وأشعار الشاعر الايطالي دانتي ما يعينه على تفسير وجه الغواية للفتيات الشابات، والعنف الذي يتفجر أحياناً ضدهن، ف»ملاك» في العنوان أو الشابة البريطانية الجميلة في الواقعة الحقيقية التي إستند عليها الفيلم جرى طعنها عشرات الطعنات، وألقيت في حمام شقة الطلبة، من دون أن يصل أحد الى تفسير ألغاز ذلك العنف. في كبوة غير متوقعة أو مفهومة، لا يحمل فيلم المخرج البريطاني الجديد أياً من تميز أفلامه السابقة، فهو الأكثر تشويشاً وتعثراً في مسيرته السينمائية كلها. هذا رغم أن بدايات الفيلم كانت تُبشر بالمختلف، لكنه كان يغير إيقاعه وأهدافه بإستمرار الى الحد الذي أضاع في النهاية الطريق بالكامل. فتخلى مثلاً عن الذهاب بعيداً في ما بدأه في تحليل هوس الإعلام الغربي بالجريمة. حتى الصحافيون الذين قدمهم هم صورة كاريكاتورية شديدة النمطية. في حين لم تتطور حكاية المخرج الاوروبي نفسه على النحو الذي تطرح أسئلة عن قصته الخاصة، أو عن المشروع السينمائي الذي ينوي تطويره. كما بدا موقف الفيلم من الجريمة مشوشاً هو الآخر، ولم يطرح أسئلة مهمة تذكر. ليبدو الإهداء الذي قدمه لروح الطالبة البريطانية، والذي جاء في خاتمة الفيلم، زائداً وبلا معنى.