تأتي بعض الحوادث على رغم تفردها وندرتها لتسجل مشهداً مهماً من مشاهد الواقع الاجتماعي، الخبر الذي تناقلته منظمة العفو الدولية وعدد من المؤسسات الإخبارية العامة يدعو المقام السامي في السعودية للتدخل لوقف تنفيذ حكم أصدره قاضٍ في الجبيل ضد طالبة في مدرسة إعدادية بالجلد 90 جلدة والحبس شهرين، يأتي الحكم، المزمع تنفيذه في الأيام القليلة المقبلة، بعد ضبط هاتف مزود بكاميرا مع الفتاة واعتدائها على مديرة المدرسة، ولم تستطع الصحيفة المحلية التي عرضت الخبر الحصول على إفادة ما من الفتاة أو أهلها، ولكنها استطاعت الوصول إلى مديرة المدرسة التي أبدت «رضاها» بالحكم الصادر وذكرت أن الفتاة في ال «20» من عمرها، بعكس موقع منظمة العفو الذي أورد أن الفتاة في ال «13»، وعلق أحد القضاة من الرياض أيضاً على الخبر ذاكراً أن الحكم تمت تلاوته على الفتاة وأنها «لم تعترض عليه»، وعليه فقد أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرها الذي طالبت فيه بوقف عقوبة الجلد اللا إنسانية المتبعة في القضاء السعودي، وظهر بعد تلك الضجة إيضاح في الصفحة الرئيسة للصحيفة المحلية نفسها من وزارة العدل بأن الطالبة تجاوزت ال «20 عاماً»، وأن الحكم الصادر بالجلد والسجن سيتم في سجن النساء، وأن العقوبة تم إصدارها بسبب تهديد الطالبة للمديرة بالقتل والترصد والإصرار على النيل منها ومن ثم الدخول عليها في مكتبها وضربها ضرباً مبرحاً حتى تدخلت الشرطة وأنقذت المديرة التي كانت في حال إغماء، ما استدعى تنويمها في المستشفى لمدة خمسة أيام، وأن القضية تمت إحالتها إلى المحكمة بعد استنفاد الوسائل التربوية، إذ سبق فصل الطالبة من المدرسة لمدة سنة من قبل - في تأكيد على المعالجة التربوية - وهذا البيان يختلف بعض الشيء عن البيان الصادر من وزارة التربية والتعليم، الذي أوضحت فيه أن الطالبة تم تحويلها لنظام المنازل نتيجة للمخالفات السابقة منها ولرغبتها في إكمال دراستها، وأن الطالبة تهجمت على المديرة بإلقاء جهاز الجوال ودلة القهوة عليها، وتم تسليمها لذويها ومن ثم تقدمت المديرة بتظلم لدى الإمارة، وأن الحكم المزمع وهو «90» جلدة تم تخفيفه للنصف بمناسبة عودة ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز سالماً إلى أرض الوطن وهو الحق العام، أما الحق الخاص فهو ما لم يتم تخفيفه، إذ يلزمه تنازل مديرة المدرسة. ما الذي يمكن قراءته من كل تلك الفوضى؟ يمكن قراءة أن حادثة اكتشاف جهاز جوال وضعت فتاة في مقتبل العمر خلف القضبان لتتعرض لأشكال الإجرام كافة، وأن 90 جلدة ستترك بالتأكيد شيئاً ما قبيحاً ودائماً في نفسها كما ستترك آثار الجلدات على ظهرها، وأن تلك الرغبة التي أبدتها سابقاً في مواصلة تعليمها، على رغم تحويلها إلى نظام المنازل، وعلى رغم العقوبات المتبعة لن تستمر، وأن شيئاً ما مجهولاً في اللحظات القليلة بين اكتشاف جهاز الجوال وبين تهجم الفتاة على مديرة المدرسة قد تم إغفاله ببساطة لأن كل الإفادات التي أدلى بها الجميع حول القضية لم تشمل الفتاة المعنية بالحكم ولم تذكر لنا لماذا تهجمت الفتاة على المديرة، وأن تخرج وزارة العدل ببيان تنقم فيه على الإعلام الأجنبي لتشويه الحكم الصادر بالقضية وإظهار القضاء في المملكة بصورة غير مقبولة، هو في حد ذاته أمر غير مقبول بالنظر إلى دور القضاء نفسه في صنع تلك الصورة، فليست حادثة الطالبة والحكم بالجلد في حد ذاته هي التي جيشت المنظمات العالمية ضد القضاء المحلي، بل ما أسردته منظمة العفو الدولية في تقريرها الأخير لكل العقوبات الغريبة والشاذة والصادرة عن القضاء السعودي في عدد من القضايا سابقاً، كجلد السيدة السورية ذات ال «75 عاماً» بتهمة الخلوة مع شابين، وقضية فتاة القطيف، وقضية طليقة النسب وغيرها، والاعتراض الصادر من منظمة العفو الدولية ليس على حيثيات القضية ومسبباتها، إذ أوضح التقرير عدم وجود معلومات كافية حول القضية ولكن على استخدام الجلد كعقوبة في حد ذاته وفي حادثة مدرسية، وعلى الأخص بالنظر إلى الأعداد الكبيرة من الجلدات التي يتم فرضها كعقاب، وهي في قضية الطالبة تقترب كثيراً من حد الكبائر المذكور في الشريعة الإسلامية - على رغم خفض العقوبة - كما تضيف على الجلد أيضاً عقوبة السجن لمدة شهرين، ولأن الحادثة تمت في وسط تربوي ومدرسي فلا يمكن إغفال دور وزارة التربية والتعليم التي أخلت مسؤوليتها بمجرد تدخل الشرطة والقضاء، لم تحدث الحادثة في مكان ما منعزل عن المدرسة، ولم يتم التطرق للأسباب التي أدت لعنف الطالبة مع المديرة مباشرة وليس مع غيرها من عضوات التدريس والإشراف الاجتماعي والمفترض تدخلهن في مثل ذلك الموقف؟ ولا يحتاج أي شخص لأن يدرك أن طالبة تصر على الانتظام في المدرسة حتى بعد تحويلها لنظام المنازل، تملك شيئاً ما من الرشد الذي يمكن تنميته بدلاً من حشرها مع مجموعة من الخارجات على القانون لمدة شهرين وجلدها حتى تثوب إلى رشدها إن ثابت بعدها أبداً . كل عاقل يدرك أن المخالفات الصادرة عن الطلبة والطالبات - بغض النظر عن أعمارهم - في أي نظام تعليمي تحتاج إلى تدخل علمي ونفسي لإصلاح الخلل في التواصل في مراكز مؤهلة للتعامل مع الغضب والتجاوز وليس بالجلد وإيداعهم في السجون، ولم أرَ في ذلك السياق سواء المنشور في بيان وزارة التربية والتعليم، أو المقروء من بين سطور الخبر، أي إشارة تدل على أي أساليب تربوية أخرى، وعلى الأخص الإرشاد النفسي والاجتماعي، التي تم اتخاذها من الوزارة سوى نبذ الفتاة إلى نظام المنازل لدرء ضررها، أما ممثلو حقوق الإنسان هنا فأكدوا أنهم لم يستلموا أي مطالبة من الفتاة للنظر في القضية، وهل هناك أكثر من مطالبة منظمة العفو الدولية لإثارة حراك ما؟ التساؤلات ضد القضاء الشرعي في المملكة ستستمر داخلياً وخارجياًَ حتى يتم التعامل بموضوعية وتطوير أساليب القضاء وأحكامه، لا بد من العودة لذوي الاختصاص في علم النفس والاجتماع في معالجة المخالفات السلوكية المرصودة ضد المواطنين، ليس لتحسين صورة القضاء وإعادة الاعتبار لرجاله ولكن لخدمة العدل وتحقيق الأمن لكل من يستحقه بما يناسب روح العصر، على وزارة العدل أن تقرأ شيئاً ما في الاستنكار والبيانات المحلية والعالمية الصادرة ضد أدائها وأن تتوقف عن تبني نظرية المؤامرة تبريراً لكل نقد. * كاتبة سعودية - الولاياتالمتحدة الأميركية. [email protected]