أُكمل من حيث توقفت أمس في حديثي عن الفساد في العراق فهو في كل مكان، من رئاسة الوزراء والوزارات بما فيها الصحة حيث تسرق الأدوية وتباع في السوق السوداء، الى الجيش وقوات الأمن، والنفط وغيره. أتجاوز كل ما سبق من فساد والعراق في أسفل المؤشر العالمي مع أفغانستان والصومال، لأتحدث تحديداً عن مرتبات أعضاء البرلمان العراقي بعد أن لاحظت في بيروت وعمان وجود عدد من أعضائه، وعدت الى لندن لأجد المزيد منهم، وهذا من دون أي إجازة رسمية، وعندما سألت سمعت شكاوى من مرتبات النواب ومخصصاتهم، واحتجت الى 20 يوماً لجمع المعلومات والمقارنة. أذكر تحديداً أن رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني قرأ مرة أسماء النواب، وهم 275 رجلاً وامرأة، لإحراجهم بإثبات غياب كثيرين منهم عن الجلسات. والبرلمان العراقي، بالإضافة الى التستر على الفساد والتواطؤ فيه، يحمل الرقم القياسي العالمي في إلغاء جلسات لعدم اكتمال النصاب، حتى ان رئيس اللجنة المالية يغيب والبرلمان يدرس الموازنة، أو يختفي أعضاء لجان معنية بالنفط وهناك مفاوضات رسمية لعقد اتفاقات نفطية. عندما لفتُ نظر أصدقاء عراقيين يعرفون دخائل الحكم في بلادهم الى ظاهرة تغيب النواب، قال واحد منهم ان هذا أهون ما يرتكبون بحق بلدهم، وإلى درجة أنه يفضل غيابهم لأن الضرر أقل إذا ابتعدوا عن مركز القرار. هو أعطاني أرقاماً وتفاصيل عن دخول النواب العراقيين من (عدم) عملهم لم أصدقها في البداية، وسألت خبراء آخرين، وتوصلت الى أرقام مشابهة ومعلومات ربما لا تكون دقيقة حتى الدينار أو كسوره، إلا انها قريبة جداً من الواقع، وهو واقع أجده مستهجناً في بلد يحاول أن يعيد بناء نفسه. البرلمان العراقي كان زاد لنفسه مرتبات أعضائه من 23.5 مليون دينار عراقي في الشهر الى 36 مليون دينار، أو حوالى 30 ألف دولار أميركي. والنائب يتلقى دفعتين إضافيتين في السنة، كل منهما بمبلغ مئة ألف دولار، فيكون دخله المعلن 560 ألف دولار. وإذا لم ينتخب النائب لولاية ثانية يظل يتلقى مرتبه أربع سنوات إضافية، ثم يتقاعد بمرتب يبلغ ستة آلاف دولار في الشهر. والنائب يحصل على جواز سفر ديبلوماسي، وكذلك أسرته، وتبقى له الصفة الديبلوماسية أربع سنوات أخرى حتى إذا لم يعد نائباً. والآن يجرى طمر ضفتي دجلة حيث الماء ضحل لاستصلاح الأرض وبناء «فيلات» للنواب على النهر، مع ترجيحي أن ذلك بتمويل رسمي. أرقامي ليست دقيقة إلا أنها قريبة من الأرقام الصحيحة، وأجد أن ما يقبض النواب العراقيون من مرتبات وما يضاف اليها من مخصصات سرقة مكشوفة في بلد دمره الاحتلال والآن يدمره الفساد. بعض النواب العراقيين من أرقى مستوى فكري، مع إخلاص للوطن وجهد في خدمة قضاياه. إلا أن هناك بعضاً آخر لا أشتري الواحد منهم بألف دينار عراقي ناهيك عن ألف دولار أو يورو، وأجده يمارس السرقة لأنه لا يمكن أن يقدم لبلاده خدمات بحجم 560 ألف دولار في السنة. على سبيل المقارنة، نجد ان مرتب عضو مجلس النواب أو مجلس الشيوخ الأميركي هو 174 ألف دولار، مع مخصصات لا ترفعه الى نصف دخل النائب العراقي. أما رئيس الغالبية ورئيس الأقلية في المجلسين فمرتبه 193 ألف دولار. وهذا في القوة العظمى الوحيدة في العالم، وليس في بلد من العالم الثالث يحاول إعادة بناء نفسه. على سبيل المقارنة أيضاً، النائب في لبنان مرتبه 7100 دولار في الشهر وإذا لم يترشح ثانية يتقاضى 55 في المئة من مرتبه، وإذا نجح مرتين وسقط في الثالثة يتلقى 65 في المئة من مرتبه، أو 75 في المئة بعد ثلاث مرات. ومرتب النائب في المغرب 4200 دولار في الشهر مع تعويضات وتقاعد بنصف المرتب مدى الحياة، وهو في مصر أقل كثيراً، وبحدود ألفي دولار، ومربوط بمدى حضور النائب الجلسات، ما يعني ان هذا النظام لو طبق على نواب العراق لماتوا من الجوع. لا أريد أن أثقل على القارئ بأرقام كثيرة، ولكن أقول ان النائب العراقي يتقاضى ما يزيد على عضو برلمان فرنسي أو بريطاني أو الماني. مضى زمن كان فيه وطنيون مخلصون في البرلمانات العراقية المتعاقبة وأذكر منهم جميل مدفعي وعلي جودت الأيوبي وخليل كنّة وفاضل الجمالي وصالح جبر وعبدالوهاب مرجان وعبدالكريم الأزري وأحمد مختار بابان وسعيد قزاز. اليوم هناك... الأفضل أن أصمت. [email protected]