على طريقة الوجبات الأميركية السريعة، أمضت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في لندن، ساعتين فقط، اعتبرتهما كافيتين من أجل إطلاق حملة دعم لصالح اليمن. وعبّر زميلها البريطاني الوزير ديفيد ميليباند في اجتماع لندن، عن مخاوفه من انهيار الدولة المركزية في اليمن، الأمر الذي يعبد طريق الفوضى امام تنظيم «القاعدة» وحركة انفصال الجنوب. وشدد ميليباند في كلمته امام ممثلي 24 دولة، على إظهار النتائج السلبية في حال تأخرت دول الدعم عن التجاوب مع الحاجات الملحة التي ذكرها وزير خارجية اليمن أبو بكر القربي، وهي حاجات بالغة الخطورة في بلد فقير يبلغ عدد سكانه 23 مليون نسمة، ويعيش 42 في المئة من أهله على أقل من دولارين يومياً، في وقت قفز معدل البطالة الى 30 في المئة. واقترح الوزير القربي لمعالجة هذا الوضع الصعب، أن تخصص دول مجلس التعاون الخليجي ما نسبته 20 في المئة من قوة العمل في قطاعات التجارة والمطاعم والفنادق والصيانة والإعمار. ورأى ان السوق الخليجية قادرة على استيعاب مليون عامل يمني هم عرضة لإغراءات التنظيمات المسلحة وأموالها السخية. المعلقون الأميركيون فسّروا الاهتمام المفاجئ بالشأن اليمني، بلغة الإرهاب التي أثارتها العملية الفاشلة التي قام بها عمر فاروق عبدالمطلب. وربطت إدارة الرئيس اوباما قرار التدويل باعترافات النيجيري عبدالمطلب الذي اعترف بمحاولة تفجير الطائرة الأميركية المتجهة الى ديترويت. كما اعترف ايضاً امام المحققين بأنه تلقى تدريبات وتوجيهات من قادة «القاعدة» في اليمن. ويبدو ان زعيم «القاعدة» اسامة بن لادن كان حريصاً على الكشف عن دوره في هذه العملية بدليل انه تعهد بمواصلة الهجمات على الولاياتالمتحدة عبر تسجيل بثته قناة «الجزيرة»، واعترف انه أرسل رسالة ثانية بواسطة «المجاهد» عمر الفاروق، لأن واشنطن لم تتعظ من الرسالة السابقة التي أبلغها «أبطال» 11 ايلول (سبتمبر) 2001. وبخلاف المبررات السابقة التي قدمها عقب أحداث 11 ايلول، ادعى بن لادن انه «سيواصل غاراته ما دام الدعم الأميركي للإسرائيليين متواصلاً». ويرى المحللون ان زعيم «القاعدة» رفع شعار القضية الفلسطينية بعد تقييد تحركاته في أفغانستان واقتراب موعد الانسحاب الأميركي من العراق. ولهذا استبدل شعار مقارعة الاحتلال الغربي بشعار إنقاذ وطنه الأصلي اليمن، من اصدقاء واشنطن. ويقول المتتبعون لنهج «القاعدة» ان خطابات اوباما في تركيا ومصر أحرجت بن لادن، لأنها دعت الى فتح حوار مع العالم الإسلامي والمعسكر المشارك له. ولهذا اشتدت وطأة المعارضين لهذا الخط السلمي في افغانستان وباكستان والعراق واليمن، بحيث أُجبر الرئيس أوباما على العودة الى الخط الذي التزمه سلفه جورج بوش في إعلان الحرب على الإرهاب. وقال دانيال بنجامين، منسق مكافحة الإرهاب في الخارجية الأميركية امام الكونغرس، ان الشاب النيجيري فاروق عبدالمطلب، اعترف له بوجود مئات الانتحاريين مثله ممن ينتظرون دورهم للقيام بمثل هذه المهمة. ولدى استيضاح الإدارة الأميركية عن عدد المنخرطين في صفوف «القاعدة»، ذكرت صنعاء ان العدد لا يتعدى ال300 شخص، ولكن اعترافات الشاب النيجيري تؤكد وجود ضعفي هذا العدد، قال انه التقى بعضهم في معهد اللغة العربية حيث كان يدرس منذ عام 2008. ويميل الإعلاميون في اليمن الى اعتماد الرقم الذي ذكره عبدالمطلب، خصوصاً عقب فرار عشرين عضواً من سجن صنعاء سنة 2006. وقد نجح هؤلاء في الإفلات من يد العدالة، بعدما اعتقلتهم السلطات اثناء وصولهم من ايرانوأفغانستان، حيث كانوا يتدربون على القتال. وبعد مرور فترة وجيزة نجح الهاربون في تشكيل خلايا إرهابية في جنوب البلاد ووسطها. وفي شهر كانون الثاني (يناير) 2009 أعلن بن لادن عن إقامة «منظمة القاعدة في شبه الجزيرة العربية». وعلى الفور دشنت نشاطاتها بهجمات على حقول النفط والمباني الرسمية الأجنبية وفنادق السياح. كما أرسلت عدة انتحاريين الى السعودية كان بينهم عبدالله عسيري الذي حاول اغتيال مساعد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف. ويرى المراقبون ان ضعف الحكم المركزي في صنعاء شجّع القبائل والحوثيين على التمرد في الشمال... مثلما شجعت الإيديولوجيات المتطرفة في الجنوب حركات الانفصال. والثابت ان المدارس تربي الطلاب على التطرف والحقد وكراهية الآخر. وأبرز خريجي هذه المدارس ذلك الإمام الذي غسل دماغ ضابط الأمن الأميركي الذي أطلق النار على رفاقه في القاعدة العسكرية. هذا الوضع الداخلي المتقيح، يفرض العودة الى المراحل التاريخية التي قادت الى الحروب الأهلية السابقة. وفي رأي بعض السفراء الغربيين الذين خدموا في تلك المنطقة، فإن انخراط الولاياتالمتحدة في العمل العسكري سيقنع إدارة أوباما بأن أزمة اليمن أشد تعقيداً من الأزمات المشتعلة في افغانستان والعراق وباكستان. والسبب ان وحدة اليمنيين التي تحققت سنة 1990 لم تقم على اسس ثابتة، الأمر الذي عرّضها للانتكاسة سنة 1994. وبدلاً من ان يوقف الرئيس علي عبدالله صالح تمرد الجنوبيين بالحوار، استخدم معهم سلاح القمع والشدة وأرسل لتأديبهم مجاهدين تدربوا على القتال في افغانستان، وسلفيين يطبقون تفسيراً صارماً للإسلام. وترجمت حكومة صنعاء انتقامها بلغة التهديد والوعيد عندما طردت عدداً كبيراً من العسكريين والإداريين الجنوبيين وحرمت الأهالي من حصتهم من العائدات النفطية. ومن رحم تلك الخلافات ولد «الحراك الجنوبي» الذي يطالب زعماؤه بالانفصال. وكان من الطبيعي ان يستغل تنظيم «القاعدة» هذا التعارض ليعزز روابطه مع ابناء القبائل في الجنوب. ولم تكن حادثة المدمرة الأميركية «يو أس أس كول» سوى ثمرة تعاون «القاعدة» مع موظفي المرفأ. بعض الوزراء في حكومة الدكتور علي محمد مجور يتهم زعماء الجنوب بالجحود وعدم الوفاء على اعتبار ان الشمال سارع الى إنقاذهم عن طريق الوحدة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. وبما ان قيادات الجنوب كانت مرتهنة لموسكو ومرتبطة معها باتفاقات عسكرية واقتصادية، فقد وجدت نفسها معزولة تماماً. وهي حالياً تختفي وراء «القاعدة» من أجل تحقيق مطالب انفصالية يصعب التكهن بنتائجها. عندما وصف وزير خارجية اليمن الدكتور أبو بكر القربي الوضع الاقتصادي المتأزم بأنه يحتاج الى دعم دولي، إنما كان يخفف من وطأة الحدث مقارنة بالتحديات الضخمة التي يواجهها ميزان المدفوعات. ذلك ان اليمن كان يعاني من ازمة اقتصادية خانقة قبل انفجار الأزمة المالية العالمية. ويمكن رصد التراجع منذ حرب صيف 1994 حتى حرب صعدة الأخيرة سنة 2009. ومعنى هذا انه طوال خمس عشرة سنة ظلت الأزمات الاقتصادية والأمنية تتوالى في شكل متواصل، بدءاً بالنزعة الانفصالية في الجنوب... مروراً بتمرد القبائل والحوثيين على سلطة الدولة... وانتهاء بالمواجهات القائمة ضد «تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية». ومع تنامي اقتصاد الحرب طوال هذه المدة، ذكرت وزارة الاقتصاد انها خسرت بليون ونصف بليون دولار بسبب الحرب مع الحوثيين. كما خسرت ثمانمئة مليون دولار لمقاومة مشروع الانفصال في الجنوب، يضاف الى هذه الخسارة الضخمة تراجع العائدات النفطية التي كانت تغذي موارد الموازنة وعوائد التصدير بنسبة 95 في المئة. وهكذا تقلص مستوى الإنتاج من 420 ألف برميل يومياً سنة 2006 الى 380 ألف برميل يومياً. لهذا يقول خبراء الاقتصاد ان اليمن يحتاج الى أمرين مهمين للخروج من محنته: أولاً- دعم اقتصادي كبير لتحاشي كارثة الانهيار والاختلال في مفاصل الدولة والمؤسسات. ثانياً- الإسراع في تحقيق استقرار سياسي يؤدي تلقائياً الى وقف الإنفاق على شراء الأسلحة، وحصر الاهتمامات بالتنمية والإعمار ومنع البطالة. يجمع المراقبون على القول بأن أنظار العالم والدول الغربية بالذات، لم تعر الأزمة اليمنية الاهتمام المطلوب لولا اضطراب الأمن الأميركي بسبب المحاولة الفاشلة التي قام بها عمر عبدالمطلب. إضافة الى هذا المعطى، فإن المخاطر التي طرحها الوزير أبو بكر القربي امام المسؤولين في الخارجية الأميركية ووزارة الدفاع، نبهت إدارة أوباما والدول الأوروبية والعربية الى احتمال انهيار السيطرة على خليج عدن. وقال في لقاءاته مع الوزيرة هيلاري كلينتون وجيفري فيلتمان، ان الذي يسيطر على خط الملاحة الدولي بين شواطئ اليمن والصومال، يستطيع التحكم بأهم الطرق البحرية. من هنا القول ان الزيارات التي قام بها قائد القوات الأميركية الجنرال ديفيد بترايوس لصنعاء، لم تكن معنية بمحاربة الإرهاب فقط، وإنما تركزت على حماية خليج عدن من تهديدات «حركة الشباب» في الصومال و «تنظيم القاعدة» في اليمن. هل هذا يعني ان الخيار العسكري اصبح هو الخيار الوحيد؟ يُستدل من التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الأمير خالد بن سلطان، مساعد وزير الدفاع السعودي والمشرف على منطقة العمليات العسكرية، أن قواته وُضعت في حالة تأهب بانتظار تدخل السياسيين لوضع استراتيجية مستقبلية بعد اجتماع لندن. وفي تعليقه على إعلان استعداد الحوثيين للانسحاب من مواقعهم «احتراماً لحسن الجوار وأواصر المحبة بين الشعبين اليمني والسعودي»، قال الأمير خالد ان الحروب الأولى عام 2004 أثبتت أنهم كانوا ينقضون اتفاقات السلام. لذلك عليهم إثبات الأقوال بالأفعال، وإلا فإن قواتنا ستظل في مواقعها على طول الحدود الى حين جلاء الأزمة وتطهير الأراضي السعودية بالكامل. وكشف في مؤتمره الصحافي الأخير، ان وزارة الدفاع مهتمة بإنشاء منطقة عسكرية في جازان منعاً لأي تسلل قد يحصل في المستقبل. في مطلق الأحوال، تبقى الحرب الأهلية في اليمن قضية شائكة صعبة الحل، لأن الداخلي فيها يتشابك مع الإقليمي ومع الدولي. وبسبب هذا التداخل العضوي بين العناصر الثلاثة، يشعر الرئيس علي صالح بأن إنقاذ اليمن – اقتصادياً وأمنياً وسياسياً – سيكون على حساب خصومه لا على حسابه كما راهنوا... * كاتب وصحافي لبناني.