انه يوم الاحد. ينبعث صوت فيروز عبر شباك مطبخ بيت ابو نبيل في مخيم البص (جنوب لبنان)، فترفع سناء الصوت تدريجياً كلما ارتفع ضجيج الطائرات الحربية الاسرائيلية، الزائر الدائم المزعج. يفتح نبيل (23 سنة) عينيه على صورة فتاة مألوفة بثياب مزركشة علقت بجانب فراشه في الغرفة. إنها بنت «البستوني» أو «اللّيخة» كما يسميها هواة «الشدّة» أو ورق اللعب. بابتسامة ينزعها ويرميها نحو اخيه باسم (19 سنة) النائم على فراشه المجاور. وكان باسم وشريكه سعيد ألحقا بنبيل وشريكه عز الدين خسارة كبيرة في الليلة السابقة. فلعب الورق أحد أكثر وسائل الترفيه انتشاراً بين الشباب الفلسطينيين في المخيمات وغالباً ما تترافق جلساته بنراجيل يدخنها اللاعبون. في الغرفة فراش ثالث لكنه خالٍ. فمحمود (13 سنة) ذهب كما اعتاد صباح كل أحد ليأتي بالفول من مطعم «ابو طارق» البعيد بضعة امتار عن المنزل. جلس الوالد في الغرفة المجاورة يشاهد الاخبار والى جانبه زوجته (ام نبيل) يرتشفان القهوة بانتظار الفطور الذي تتولى إعداده سناء (25 سنة). يرتفع صوت التلفاز حين يبدأ احد الحوارات التفلزيونية حول «الذكرى السنوية الاولى للعدوان الاسرائيلي على قطاع غزة»، فتطلب هند (16 سنة) خفض الصوت الذي يعيقها عن استكمال الجزء الاخير من رواية مشوقة. وهند، كغالبية شابات المخيم، لا تتمتع بفرص كثيرة لممارسة هوايات خارج المنزل، ليس بسبب انعدام الأماكن المخصصة لهن فحسب، وإنما أيضاً بسبب بيئة محافظة ومتدينة نسبياً. لكن الوالد بقي منسجماً بمتابعة برنامجه، خصوصاً عندما يحتدم النقاش على الشاشة بين مسؤولين سياسيين متخاصمين. والواقع أنه مع اعتماد غالبية الأسر في المخيم على الاشتراك الشهري بالصحون اللاقطة باتت مشاهدة المحطات الفضائية محطة يومية في حياة الأهالي. لكن في الوقت نفسه نتجت من هذا الواقع مشكلة جديدة تتمثل في دور رقابي يقوم به موزعو الاشتراكات. الساعة الآن تجاوزت الحادية عشرة وتأخر محمود بإحضار الفول. بعد إلحاح الوالدة لحقه باسم الى المطعم، فلم يجده. فكر قليلاً وقرر ان يلقي نظره على احد مراكز التسلية، ليجد جمهوراً من الاطفال متحلقاً حول محمود ورفيقه صالح وهما يتنافسان على طاولة «بيبي فوت»، فيما ترك قدر الفول يبرد. وفي ظل غياب الملاعب وغيرها من فضاءات التسلية الشبابية، تشكل هذه النوادي الصغيرة متنفساً حقيقياً لمراهقين وشبان يسعون إلى تبديد أوقات فراغهم. وهي إلى ذلك تشكل مصدر رزق مريح ومربح لأصحابها مع انعدام فرص العمل. ينتهي أفراد العائلة الستة من تناول الفطور باستثناء محمود الذي جلس بعيداً حزيناً بعد خسارته المباراة من جهة وتأنيب العائلة له من جهة اخرى. لكنه عاد ونهض مبتسماً بعدما طلب منه باسم ارتداء ثياب كرة القدم ليشركه في مباراة حقيقية تنطلق بعد ساعة في الملعب القريب من المخيم بين فريق «شباب فلسطين» وفريق «عكا». توجه الأخوان إلى الملعب الواقع خارج المخيم الذي تضيق رقعته الجغرافية عن استيعاب مساحات لعب بين المنازل المكتظة. في هذه الاثناء، جلست سناء امام شاشة الكومبيوتر للدردشة المعتادة مع ابنة خالتها في غزة عبر «الفايسبوك»، صلة التواصل الجديدة بين أبناء المخيمات واقربائهم المهاجرين وعائلاتهم في فلسطين. أما نبيل فتأنق للخروج برفقة اصدقائه الى بيروت لحضور الفيلم السينمائي الفلسطيني الجديد «جدار في القلب» المصنوع بتقنية «ثلاثية الأبعاد». وكان سبق الاستعداد لمشاهدة الفيلم حماسة كبيرة بين شبان قلما يستفيدون من وسائل الترفيه خارج المخيم لعدد من الأسباب أولها تكاليف الرحلة المرهقة واضطرارهم للوقوف على حواجز الجيش اللبناني عند مداخل المخيم وخضوعهم للتفتيش. بقيت هند وسناء في المنزل وبدا عليهما بعض الانزعاج لصداح منبه والدهما المنطلق قوياً يذكره بموعد لعب الطاولة مع الحاج سعيد، صديق العمر. بحماسة وثقة ينطلق ابو نبيل الى هدفه متأبطاً كرسيه إلى محل حلاقة «ابو عزيز» حيث يلتقي الرجال وكبار السن في تجمعات تختلف بحسب المخيمات. ينهي ابو نبيل والحاج سعيد اللعبة وقد ربح الاول، وتوجها معاً برفقة رجال آخرين الى قاعة يقام فيها إحياء الذكرى السنوية الاولى للعدوان على غزة. لا تشارك النساء عادة في هذه المناسبات العامة التي يغلب عليها الرجال بسبب اهتماماتهم السياسية والتزامهم بدعوات توجهها إليهم الفصائل كعلامة تقدير لهم ولمشاركتهم. عند المساء يصل نبيل وصديقاه الى المخيم بعد عناء الطريق الطويل من بيروت حيث شاهدوا الفيلم وتجولوا قليلاً في «الداون تاون» (وسط بيروت)، وانضموا الى محل النراجيل حيث يحضر كل واحد طلبه بنفسه وهي عادة دأبوا عليها كل يوم. بدأ الشباب بتبادل الاخبار بينما بدأت الطائرات الاسرائيلية أيضاً جولاتها المسائية... * أحد الفائزين بجائزة أفضل مقال خلال ورشة «أسس الصحافة المكتوبة» للشباب الفلسطيني التي نظمتها «الحياة» بدعم من السفارة البريطانية في لبنان. www.palyouthwrites.org