اختط بعض القضاة، طريقاً آخر في التأديب القضائي عند من تثبت بحقه جرائم معينة، فطُرحت عقوبات تعد من الأعمال التطوعية، كتنظيف المسجد أو التطوع في تقديم خدمة محددة للناس، وغيرها من الأعمال التي تأخذ في ظاهرها شكل التأديب، إلا أن هناك أسئلة كثيرة تدور في أذهان الناس عن مدى جدوى ذلك النوع من العقوبات، التي بدأت تحضر بشكل فاعل في المحاكم السعودية، وسط مراجعة لأدوار السجون التي وجدت في الأساس للتهذيب في نظر البعض، قبل أن تقام للعقاب. إلا أن الجدل حول ما يسمى بالعقوبات البديلة لم يحسم بعد، فهناك من يتساءل عما إذا كانت العقوبات رادعة بالفعل، أم أنها نوع من الترف؟ وهل المجرمون يستحقون التعامل الحضاري؟ وهل يمكن اللجوء إلى العقوبات البديلة في كل الجرائم؟ عن ذلك يشير القاضي في المحكمة العامة في مكةالمكرمة الدكتور هاني عبدالله الجبير إلى أن «الشريعة الإسلامية جاءت بالنص على عقوبات محددة لعدد قليل من الجرائم، وهي التي تسمى الحدود، أما بقية الجرائم، فإنها لم تفرض لها عقوبات محددة، بل تركت شأنها لأولياء الأمر والقضاة، يفرضون في كل حالة ما يناسبها من عقوبات، وهي التي تسمى بالتعزيرات». ولفت إلى أن الجرائم التي حددت الشريعة عقوباتها هي من الجرائم الخطرة، التي لا يمكن لمجتمع أن يسوده الأمن والاطمئنان إلا إذا قلَّت فيه، «لأنها تتضمن الاعتداء على النفس والأعراض والعقول، وأمن الدول وسلامتها والدين والملكية الخاصة». واعتبر الجبير ترك الشارع تحديد أكثر العقوبات للقضاة وولاة الأمر «من علامات تفوق الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لأنها تركت بعض التفصيلات لأولي الأمر، ليقرروا ما يتناسب مع كل زمان ومكان، فتوضع تعزيرات تناسب العصر والبيئة، وبذلك تكون الشريعة مسايرة للزمن ومواكبة للتغيرات، فإن الجرائم لن تحصر مهما كان، وتفاوت مدى الجرم في كل معصية، يتفاوت باختلاف الظروف المشددة أو المخففة في كل واحدة». ونوّه إلى أن من «يتتبع التعزيرات الواردة في الشرع، وعمل فقهاء الإسلام، يجدها مختلفة، بحسب هذه الظروف، ومن تلك التعزيرات الإعدام والجلد والسجن والنفي والغرامات المالية، والمصادرة والتوبيخ والهجر، والعزل والتشهير وغيرها، ما دامت تحقق الغرض المقصود من التعزير، وهو الردع والزجر، مع الإصلاح والتهذيب من دون إهدار لآدمية الإنسان». وأفاد بأن بعض الفقهاء كالحنابلة قرروا، أن المعسر يكلف بالعمل لسداد ما في ذمته، ومعنى هذا إلزامه بالعمل واستيفاء الأجرة، التي تزيد على حاجته لسداد ديونه. وأضاف: «إذا ساغ هذا في حقوق الآدميين، فلا يظهر مانع من اعتباره في الحقوق العامة من تكليف المحكوم عليه بالعمل بلا مقابل في وظيفة مفيدة لدى أية جهة حكومية، أو لدى البلديات مثلاً بما تعود مصلحته للمجتمع، مادامت عقوبته لمصلحة المجتمع، وذلك بلا مقابل». من جانبه، علق الأستاذ في قسم الدراسات الاجتماعية في جامعة الملك سعود جبرين الجبرين على مسألة تحقق الردع بالعقوبات البديلة، وقال: «في اعتقادي انه لا يمكن الحديث عن العقوبات البديلة بمعيار عام، لأننا لا نعرفها ويصعب إصدار حكم عام عليها جميعاً، وتكون غالباً مرتبطة بنوع العقوبة، وجنس المجرم وشخصيته وعمره، اذ ان الناس يختلفون بحسب هذه المتغيرات». واعتبر الجبرين أن «معظم العقوبات البديلة التي نسمع بها ربما لا تحقق الردع المطلوب لأنها تأخذ طابع السهولة مثل تنظيف المسجد أو ما شابهه من عقوبات يحكم بها القضاة». وحول تساؤل البعض عن مدى استحقاق المجرمين للتعامل الحضاري، قال: «التعامل مع المجرمين تحكمه القوانين ولا مجال للاجتهاد فيه، ولفت إلى أن التعامل الحضاري لا يعني التساهل مع المجرمين. لكن من حقهم أن يحصلون على ظروف اعتقال سليمة ومحاكمة عادلة وحتى عندما يقضون أحكاماً بالسجن فيجب أن تتوافر لهم البيئة التي تحقق لهم الحد المقبول من المعيشة». وشدد على أنه لا يجوز اللجوء إلى العقوبات البديلة في كل الجرائم، وعلل ذلك بأن الجرائم أنواع والمجرمون الذين يشكلون خطورة على المجتمع يجب ألا نفكر لهم في بديل للسجن، ولذلك ينبغي أن يتم الاقتصار في العقوبات البديلة على الجنح والمخالفات وبعض الجرائم التي ليس فيها اعتداء على الغير أو حق خاص، وأن تكون طبيعة المجرم لا تمثل أية خطورة على المجتمع، بمعنى آخر أن تأخذ طابع التأديب أكثر من طابع العقوبة. ووصف أستاذ التربية الإسلامية في جامعة الملك سعود الدكتور إبراهيم العبود فكرة العقوبات البديلة ب «الطيبة والجيدة»، إلا أنه اشترط أن يقصد بالعقوبة ردع الآخرين ومعاقبة المجرم نفسه، مفيداً بأنه قد يعاقب الآخرون لردع أمثالهم، على رغم إقراره بأن انعكاس العقوبة على المجرم قد يكون سيئاً إلا أن أثرها في المجتمع قوي حتى يحد من الجريمة. ورفض العبود القول إن المجرم لا يستحق التعامل الحضاري، وذكر أن إطلاق «المجرم» على من يقع في بعض الأخطاء البسيطة، خطأ فادح. ورأى أن بين سلبيات العقوبة البديلة انتشار الجريمة حينما لا تحقق الغرض منها، «فالقتل حينما يقابل بالقصاص فهو للمحافظة على الأنفس الأخرى يقول الله تعالى: «ولكم في القصاص حياة» حتى يعيش الناس براحة، فلو طبق الحد على السارق لما انتشرت السرقات في مجتمعنا كسرقة السيارات والبيوت»، وأشار إلى أن تطبيق الحد على المجرم يقضي على عامل الجريمة بداخل نفسه لان الجريمة ليست له فقط، بل لردع أمثاله، وحتى يحسب لها ألف حساب مستقبلاً. ولفت إلى أن السجون قد تعلم بعض المخطئين جرائم أكبر إذا اختلط مع ناس آخرين أكثر إجراماً، واقترح أن يعاقب المخطئ خارج السجن بأمور عملية تطوعية.