باستثناء التفاصيل المتعلقة بالتواريخ وأسماء الحلفاء والأصدقاء، يستطيع قارئ بيان الأحزاب العربية التي اجتمعت في دمشق في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أن يلاحظ بسهولة أن اللغة التي كانت تستخدم في الستينات والسبعينات من القرن الماضي لا تزال اللغة السائدة في خطاب الأحزاب العربية القومية والإسلامية. فالبيان يبدأ بتكرار اللازمة المعهودة حول «مرحلة تاريخية صعبة اجتازتها أمتنا عقب الدورة الرابعة للمؤتمر». لا أذكر مناسبة عربية مرت أو حدثاً كبيراً أو صغيراً أو خطاباً لمسؤول، إلا ودار الحديث عن «مرحلة صعبة» يشهدها الوطن العربي، الذي تتآمر عليه قوى «الاستعمار والاستكبار والاستغلال». ثم ينتقل بعد ذلك ليذكر «ترنح مشروع الهيمنة الأميركية على الوطن العربي على يد المقاومة الباسلة في العراق، ما أفرز متغيرات كبرى في المنطقة والعالم، ليس أهمها سقوط الإدارة الأميركية المحافظة». ولا يذكر البيان عن أي مقاومة يتحدث في العراق، ولا يشير ولو إشارة بعيدة إلى الأعمال الإرهابية لمنظمات القاعدة وأخواتها التي استهدفت أمن العراق والعراقيين، من دون أن تمس تقريباً أمن الاحتلال الأميركي. هل كان ذلك سهواً أم إغفالاً مقصوداً لأن كثرة من الأحزاب المشاركة في المؤتمر والتي صاغت البيان قريبة أو داعمة أو منسقة مع هذه الحركات الإرهابية التي قتلت مدنيين عزلاً؟ أما القول بأن المقاومة في العراق أسقطت إدارة الرئيس الأميركي السابق بوش، ففيه مبالغة كاريكاتورية تهمل عمداً مسألة تداول السلطة في أميركا وقضية الانهيار الاقتصادي ورغبة الأميركيين المستمرة في تغيير الحزب الحاكم، وهو ما لا تعرفه الأحزاب العربية التي يرئسها رؤساؤها وأمناؤها العامون حتى يتوفاهم باريهم فيورثونها أبناءهم. والحديث عن «الانقلاب على الخيار الديموقراطي مثلما وقع في فلسطينالمحتلة» يغفل عمداً من جديد أن بعض القوى الإسلامية إنما تؤمن بالديموقراطية لمرة واحدة، فتطبق الشريعة الإسلامية وتبقى في الحكم إلى الأبد، كما حدث في غزة. ينتقل البيان للحديث عن «الإنجازات التي حققتها المقاومة العربية الباسلة في فلسطين والعراق ولبنان بدعم واحتضان من سورية العروبة والجوار الإسلامي الإيراني - التركي». والبيان يفشل ههنا في الربط بين الجوارين التركي والإيراني. فإن كان الدعم الإيراني لبعض الفصائل الإسلامية معروفاً، فإن الجوار التركي لم يقدم دعمه للفصائل وإنما آثر دعم العملية السلمية ككل، وهو أسلوب يرى إلى القضية بمجملها ويسعى إلى مصالح إقليمية تصب في خدمة الجميع وليس إلى مصالح آنية لهذا الفريق أو ذاك. ويتحدث البيان عن أن «المقاومة برهنت كمشروع ورؤية جدواها وواقعيتها كأداة إستراتيجية وعامل أساس تمتلكه الأمة لمواجهة التحديات والتهديدات الأميركية – الصهيونية، وتحرير الأرض والإنسان». بيد أن البيان يفشل مرة أخرى في تحديد مضمون مصطلح «المقاومة»، فيأتي إطلاقياً وفضفاضاً وفارغاً من معناه المحدد. فهل هي المقاومة التي تقوم على أساس وطني أم اجتماعي أم قومي أم ديني؟ وهل تكون فقط بالسلاح، أم أن المعرفة والصناعة والزراعة والتنمية والإنتاج والتقدم الصحي ومراكز الأبحاث جزء لا يتجزأ من المقاومة كمفهوم حضاري شامل؟ يبدو أن لغة البيان تؤكد التفسير الأول عندما تضيف أن «العدو لا يفهم إلا لغة القوة». وهذا تسطيح لفكرة المقاومة المجدية وحرف لها باتجاه منحى وحيد. ويتنبأ البيان ب «استحالة قيام دولة فلسطينية على ما تبقى من أرض فلسطين»، مما يدفعه إلى المطالبة بسحب «المبادرة العربية للسلام... واعتماد خيار المقاومة». لكن هذه المطالبة تأتي مقابل خيار فضفاض لا يمكن أن ينهي حالة الحرب ويؤسس لعملية السلام. ذلك أن من غير الواضح ما إذا كان البيان يطالب بأن تهيئ الدول العربية نفسها للحرب مع إسرائيل، أم ترك العملية برمتها لفصائل المقاومة التي لن تتمكن من أكثر من إطلاق صاروخ هنا وسيارة مفخخة هناك. وهذا قد يؤدي إلى إرباك الإسرائيليين ولكنه لن يؤدي إلى السلام العادل والشامل الذي تطالب به الشعوب العربية والحكومات العربية كافة. ومن هنا فالبيان، بمطالبته هذه، يعبر عن لا مسؤولية الأحزاب العربية المئة والسبعة التي وقعته، عندما يسحب حلاً موجوداً على الخريطة السياسية لقاء وعد بحل غير كامل ولا مسؤول. على صعيد آخر، يجدد المؤتمر وقوفه إلى جانب «السودان في سعيه الدؤوب لحماية وصون هويته العربية - الإسلامية والمحافظة على وحدة ترابه الوطني... كما يدعو جميع الأطراف إلى العمل المخلص من أجل حل أزمة دارفور بعيداً من الأجندة الأجنبية». ولدينا هنا إشكالان يمر عليهما البيان بسرعة: الأول هو الانتماء والهوية العربية - الإسلامية، فالبيان يربط برابط المدّة (–) الوثيق بين الهوية العربية والهوية الإسلامية، جاعلاً منهما هوية واحدة (عربية - إسلامية)، وهو ما يتكرر في الحديث عن الانتماء العراقي. وهذا ما كان ينبغي أن يمرَّ في سطر من بيان من دون نقاش معمق. ومن جانب آخر، يحتوي هذا الدمج على كمية هائلة من التعسف تجاه ما يقدِّره بعض الدارسين بربع سكان السودان، من غير المسلمين وغير العرب. كما يمر على مأساة دارفور بعبارة عائمة ومن دون مضمون، كأنما لم يمت الآلاف من أبناء هذه المنطقة، ولم تشهد من المآسي والكوارث والمجاعات والتقتيل ما شهدت وأكثر، مصوراً الأمر برمته كمؤامرة خارجية. لقد أحسن المؤتمرون بإعلان دعمهم لحق المغرب في تحرير سبتة ومليلية والجزر المحتلة من السيطرة الإسبانية، وكذلك دعم حق جزر القمر في استعادة جزيرة مايوت من المستعمر الفرنسي، وبدعوتهم كُلاً من إسبانيا وفرنسا إلى فتح حوار مع المغرب وجزر القمر لتصفية الاستعمار في الأراضي العربية في إفريقيا. ولكن المراقب يتساءل لماذا أهملوا جزراً أخرى محتلة هي جزر طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى التي تحتلها إيران من السيادة الإماراتية؟ منذ الستينات ومجيء حركة التحرر الوطني العربية إلى الساحة السياسية، مرت مياه كثيرة تحت الجسر. تغيرت معطيات وظروف، نمت قوى وماتت قوى، ظهرت نظريات جديدة وخبت تلك القديمة، لكن أحزابنا القومية والإسلامية في تحالفها الجديد غير المقدس لا تزال تلوك النظريات واللغة القديمة إياها والخطاب الذي حُذفِت منه أسماء الحلفاء واستبدلت بأسماء أخرى، ولسوف تحذف هذه الأسماء بعد حين لتستبدل بها أسماء أخرى. ولكن دائماً سيغيب عن النقاشات التي تتم داخل المؤتمرات والبيانات التي تصدر في ختامها مسائل جوهرية هي الأساس، كالديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وتداول السلطة وحرية الإعلاموتمكين المرأة وحقوق الأطفال وتحسين أداء الجامعات وفصل الدين عن الدولة. ولسوف تستمر الأمور على هذه الحال حتى تنشأ قوى جديدة تقوم على أساس فهم جديد، يعتمد تعدد الآراء داخل الحزب وتداول السلطة داخل التنظيم ومساءلة القيادات الحزبية وتطبيق نظام من أين لك هذا وذلك وتلك؟ * كاتب سوري