كان يقفز مثل الغزال، ويسير كأشد ما يسير الرجال، لا يناد للأذان في كثير من الأحيان، إلا وقد وضع جبهته في الصف الأول خلف الإمام.. محبا للخير، مساعدا للغير، ينفق ما في جيبه لإسعاد غيره ،مرحا في كلامه ،محببا في صفاته، معطاء في قوله وفعله ،يتحفنا دائما بقصصه وحكاياته.. إذا أردت نثرا من عبق الماضي أعطاك، وإذا أردت مواقف لرجال مضوا آتاك ، يعطف على الفقير، باذلا للخير،عندما تجلس معه جلسة واحدة يأسر قلبك ومحياك.... ذاك عمي الحبيب، والدي الثاني، في طرفة عين يسقط بين أبنائه!! بلا مقدمات ولا مؤخرات، ينقل على المستشفى، يرقد في العناية المركزة، حالته في تذبذب، طاقم من الأطباء يأتون إليه ،يفحصونه ويقررون في النهاية، ((جلطة)) تأخذ نصف جسده بلا حراك... يصلني الخبر كالصاعقة، أدور مقود سيارتي متجها إليه، كأن المسافة التي كنت أقطعها في نصف ساعة، تتحول هذا اليوم لنصف يوم، أدخل عليه، وإذا به يئن من آلامه، ويتوجع من أسقامه، ولكن عناية الله تحيطه بفضله، إن داء العصر قد حل به إنها ((الجلطة...)) مكثت معه ساعات طوال، وليس لي فضل في ذالك، فلطالما رعاني بعطفه، وأحاطني بمنه، وألبسني ثوب حنانه... كنت أجلس من حوله، وهو كالجثة الهامدة، أفكر في وضعه، واسأل نفسي، يا الله !!!بعد تلك الصحة والعافية، يسقط كالميت!!! ما أحقر هذا الإنسان الضعيف، والمخلوق السخيف، ما أجهل هذا الكائن بحوادث الدهر، وتقلبات الزمان والعصر، يعيش متقلبا بين النعم، يرفل من الصحة والعافية، ولا يعرف قيمة نعمة المولى عليه، حتى يئن تحت وطأت فقدها... أذكر أنه دعاني ذات مرة وهو على السرير الأبيض، فقال لي بصوت لا يكاد يفهم: أتمنى أن أملك عشرة ملايين!! فاندهشت من هذه الأمنية، وقلت ياعم: ماذا تريد بها وأنت على هذا الحال؟؟ فقال: يا ابني أريد أن اشتري العافية بهذا المال!! وارتاح من هذه الآلام!! ولكن ثق بابني ،أن الذي سيأتي بهذا المال، سيأتي بالعافية من غير مال، فادع الله لي، أطرقت رأسي مليا.. ثم رفعته وقلت لعمي: اسأل الله أن يعيدك مثلما كنت، بل أحسن، فقال لي: يا ابني قد عشت في العافية ما يكفي، فاحمد الله أن أبقى لي لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا.. بعد أسابيع، تحسنت حالته ولله الحمد، وتجاوز مرحلة الخطر، وخرج لبيته ،وهو الآن أفضل بمرات كثيرة، ولكنه يعجز عن المشي إلا بمعاونة ومساعدة... يقول أبو تميم:- الإنسان في هذه الحياة، لا يعرف قيمة الشيء حتى يفقده، فكم من إنسان ضيع وضاع ،وضل وراع، يتقلب بين النعم غدوا وعشيا ،وهو لايشعر بها، يسمع النداء فلا يجب ،ويعرض عن التفكر في هذا الكون الوسيع ،لم يجلس مع نفسه يوما فيتفكر في النعم التي تتحرك بين جنبيه، قلب يخفق، ونفس يدخل ويخرج بلا مشقة ولا كلفة ،ودماء تجري، وعين تبصر، ويد تبطش، وغيرها كثير وكثير،{ فهلا ساعة تفكر وتدبر...} يا قارئ هذا المقال، عندما تخلد إلى نومك فادع الله بهذا الدعاء: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك ،وفجاءة نقمتك ،ومن كل سخطك) خاتمة: سمعت مع عمي هذه الليلة أذان المغرب فقال :أتمنى أن أجيب هذا النداء ،وأصلي مع الجيران ،لعل هذه الصلاة تكون نورا لي في قبري. [email protected]