بلغ الصخب الإعلامي والسّعار العسكري حداً يكاد يطغى تماماً على المشهد الإقليمي والدولي، فالمركزية الدولية الاحتكارية تريد أن تملي على ضحاياها مفردات خطابهم السياسي ضدّها، وتريد أن تحدد لهم خطواتهم في مواجهتهم لها ميدانياً، حيث هاجسها الرئيس هو تجريد المشهد الإقليمي أو الدولي من أي بعد تاريخي، وإفراغه من أي مضمون إنساني قومي أوأممي، الأمر الذي يستدعي خروج الضحايا من أسار اللحظة الراهنة وتحديد موقع هذه اللحظة في السياق التاريخي العام والشامل! على صعيد تطوّر الوضع العربي فإنّ الخروج من أسار اللحظة الراهنة سوف يجعلنا نرى أنّ المواجهة الحالية الكبرى بين العرب وأعدائهم ليست في جوهرها سوى تكرار متقدم لتلك المواجهة التي حدثت قبل تسعين عاماً ونيف، بين الثورة العربية الكبرى وبين الدول الاستعمارية، وليست سوى تكرار متقدم لما تلا تلك الثورة من مواجهات عديدة، كحرب فلسطين في العام 1948 وحرب السويس عام 1956 وغيرهما، فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك حقاً، فإنّ أول ما يجب أن نلاحظه هو التطور الذي ظل يطرأ على أحجام القوى المتقابلة من مواجهة الى أخرى وحتى يومنا هذا.إنّ الخط البياني لحجم القوى المتقابلة "العرب وأعداؤهم وخصومهم" ظلّ في صعود مستمر، سواء من حيث التعداد أو العتاد. وبالطبع فإنّ ما استدعى صعود الخط البياني، على الرغم من كل المعوّقات، هو تقدم أمتنا وليس تراجعها، إذ لو أنها تتراجع لكان الخط البياني لحجم المواجهات في هبوط وليس في صعود، وهذا يعني أن البنية التاريخية التحتية المشتركة للأمة كلها، التي كانت هدفاً رئيسياً للعدوان على مدى القرن الماضي، قد صمدت أمام جميع محاولات تفتيتها وتبديدها على الرغم من نجاح الأعداء في تجزئة بنيتها الفوقية السياسية والجغرافية، أي أنّ البنية العربية التحتية، الاجتماعية التاريخية، ظلت موحّدة وممتنعة على محاولات اختراقها. إنها تقاوم مثل هذه المحاولات مقاومة متصاعدة من جهة، وتناضل لاسترداد بنيتها الفوقية، المسلوبة والمبعثرة، من جهة أخرى، وهذا ما يفسر لنا تصاعد أحجام القوى المتقابلة من جولة الى أخرى.لقد تحققّ هذا الصعود في الخطّ البياني للمواجهات بفضل متانة البنية التاريخية التحتية المشتركة للأمة كلها، وبفضل تجاوز بعض أطرافها مرحلة البدايات، أي مرحلة الارتباك والتخبط والفجاجة، والخطاب السياسي القاصر والأداء الميداني الأخرق، وبلوغه مرحلة النضج بكل أطيافه الوطنية والقومية والإسلامية. وبناء عليه فقد زال خطر الانكفاء الذاتي والموضوعي الذي ظلّ يهدّد وجود الأمة من أساسه طيلة النصف الأول من القرن العشرين. وعلى الرغم من أنّ فلسطين تعتبر الحلقة الأضعف في المشهد العربي، فقد برز صعود الخط البياني فيها أكثر من غيرها، حيث شكّلت قواها المجاهدة رأس الحربة، والخندق الأمامي، والرافعة التاريخية للوضع العربي والإسلامي عموماً. ولا غرابة في أن تكون القوة الفلسطينية كذلك وهي التي نجحت في إبقاء الكيان الصهيوني "القوة الاستئصالية المدعومة دولياً" مجرّد مشروع قابل للانكفاء، حيث منعته من تحقيق أي تقدّم نوعي، حاسم ونهائي، طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وهو المشروع الذي انطلق من فكرة أنّ الفلسطينين لا وجود لهم، وأنّ المواجهة هي مع العرب جميعهم.