عرفت مصر ومجتمعها بكل فئاته وطبقاته قبل ان اصل اليها في منتصف الستينات الميلادية حيث قدم الروائي الفذ نجيب محفوظ الطبقة الشعبية فكنت أعيش في زقاق المدق واتناول الفطير عند فطائري الحسين واستمع الى ثرثرات أهل العوامات.. أو أشاهد ذلك الرجل المهيب في داخل بيته سيد عبدالجواد. وعرفت المجتمع – المخملي – من خلال روايات احسان عبدالقدوس بكل عطوره كعطر ليالي باريس ذلك المجتمع وبكل نزقة وترفه وانكساراته.. وعرفت الشوارع الخلفية بكل تفاصيل مسامها من خلال عبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وعشت حياة الريف بتهويمات عبدالحليم عبدالله في الجنة العذراء ولقيطة وغيرها. ان مصر امامي كالكف اعرف خطوطها وتعرجاتها بل عرفت باعتها ودكاكينها الضخمة صيدناوي وشملا والامريكيين قبل ان تطأ قدماي ارضها العزيزة. بل عرفت أساطين فنها ابتداءً من عبدالوهاب ومحمد فوزي وكارم محمود حتى عبدالحليم حافظ والسيدة أم كلثوم بروائعها الفاتنة ونجاة بدفء صوتها وفايزة احمد بحلاوة ذبذبات حنجرتها. وعرفت صحفييها بصخبهم وبجنونهم وبتهويماتهم اللذيذة فهذا كامل الشناوي الذي يصر على ان يمسح شوارع القاهرة بعد ان يخرج من الاخبار في سيارته حتى تشرق الشمس حتى يرتاح بأن نهارا جديدا قد أتى او ذلك طويل اللسان جليل البنداري او سخرية محمود السعدني.. واجتماعهم في مقهى الفيشاوي وتسمع ضحكاتهم وهم يستمعون الى صاحب النكتة الشهيرة – حسين الفار – وأبخرة فناجين الشاي والقهوة التي يصر بعضهم على ان تكون سادة.لتتشابك "كراسيهم مع كراسي القادمين من مسرح الريحاني او رمسيس بعد ان اسدلوا الستارة على آخر مشهد من احدى تلك المسرحيات الضاجة بالضحك والسخرية المحببة.. فهذا نجيب الريحاني بهدوئه الساخر وذلك عادل خيري من بعده بحركته المحسوبة. وذلك فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولي وغيرهم من اساطين المسرح. ماذا أقول ؟ وماذا أعيد انه العصر الذهبي عندما كانت مصر هي الدرة بالفعل ان كان ذلك في الفكر أو في الفن بكل اصنافه من مسرح وسينما واذاعة وصحافة او في السياسة بل كل نواحي الحياة: ان الحياة كالحمامة لابد ان تكون كل اجزاء جسمها سليمة لكي تتمكن من الطيران .. مصر الآن تعاني من احد اطراف جسمها لهذا لا تستطيع التحليق لابد من علاجه لكي تطير من جديد. بل عرفت حياة النضال فيها من سياسيها ومفكريها الكبار وفلاسفتها العظام ورجال العلم والاقتصاد فيها اما علماء الدين فهم قرة العين وبهجة الفؤاد واذكر من هؤلاء وادع من هؤلاء، ان مصر كانت زهرة المدن العربية ان لم تكن زهرة العالم الثالث بأجمعه.وأخيراً أين تلك حلقات الدرس في اروقة الأزهر أين صوت ذلك العالم الفذ محمود شلتوت والباقوري ومحمد مصطفى المراغي وعبدالحليم محمود وغيرهم عشرات العلماء الافذاذ؟ .. لهذا أسأل : الآن ماذا يجري في أم الدنيا؟ انه السؤال المؤلم حقاً.