ما يحدث الآن في دول الربيع العربي من تجاذبات سياسيّة بين الفئات الحاكمة والفئات التي تُعارِضها يكشف بجلاءٍ عن مدى ابتعاد الفعل السياسيِّ عن الواجب الوطنيّ، ويُجلّي الفجوةَ الكبيرة بين إيديولوجيا النخب وحاجات الشعب. ولئن جاز إرجاع بعض أسباب هذا الوضع إلى ما خلّفت الأنظمةُ المخلوعةُ من أدبيات المتاجرة بجوع الشعوب والركوب على الأحداث لتحقيق مآرب أصحابها، فإنّه يمكن لنا أيضًا أن نسمّي أسبابًا أخرى لهذا الوضع منها ضبابيّة مفاهيم بعض المصطلحات لدى الفاعلين السياسيّين مثل الوطنية والثورة والحرية والكرامة والشعب والسياسة. فإذا صدّقنا أنّنا نعيش زمن الثورة، وأنّ الثورة تَجِبُّ ما قبلَها، كان لزامًا علينا أن نُعيدَ تعريفَ تلك المصطلحات، فالحريّة قبل الثورة لن تكون هي ذاتها بعدها، والوطن بعد الثورة ليس هو ذاته الذي أوْجبها. فلن تنجح الثورةُ، تلك التي أنجزها الشبابُ، إلاّ متى تخلّصت من حِكمةِ الشيوخ وسعيِهم إلى الحُكمِ ِ. والشعب الذي تفجّر فيه الغضب وجفّت دماؤُه على إسفلتِ الطرقاتِ لن ينجح في تصنيع كرامة مستقبله وهو يرى أعداءه يتطهّرون من رجسِ ماضيهم بشعارات الحريّة والمصالحة و"عفا الله عمّا سلف". والحريّةُ التي افتكّها المواطن البسيط من فَم الغولِ لن تتحقٌّ ما دام تُجّارُها السابقون يُسيطرون على منابر الإعلام . والسياسةُ لن تحلّ مشاكل الناس مادامت قائمةً على تقنية "فَرِّقْ تَسُدْ" ومهارات التسويفِ والاحتماء بالأجنبيِّ. والذي نراه أنّ الواقعَ العربيّ بعد هذه الثورات يفترضُ حكوماتٍ لا تختصُّ في صناعةِ الأحلام الشعبيّةِ بل في تصنيع الخُبْزِ للمواطنين، ويفترضُ معارضين لا يقومون الليلَ لتسقُّطِ أخطاء الحاكم وترغيبه في الزيادة منها حتى يُسقطوه ويحلّوا محلَّه في كراسي الأخطاءِ بل عليهم أن يمدّوه باقتراحاتهم المتصلة بالنهوض الاجتماعيِّ، ويفترضُ شعوبًا لا تتسوّل حقوقَها من الحُكّامِ وتمدُّ لهم أيديها، بل تعجن قوتَها بعرقِ جبينها وتؤمن بأنّ السياسيَّ ليسَ إلاّ تاجر مواقف دون أداءات جمركيّة، وبهذه اليقظة تحمي نفسَها من أن تتحوّل إلى كرسيٍّ هزّازٍ يجلس عليه الحاكم فيجلبَ له نومًا لا ينهض منه إلاّ بعد أعوامٍ من الدّكتاتوريّة.