أعلنت الولاياتالمتحدة أنها انسحبت نهائياً من العراق وعدّت ذلك يوماً تاريخياً لها وللعراق، وأنها أنجزت مهمتها، وتركت العراق بلداً ديمقراطياً مستقراً. وقد أشار أوباما إلى أن العراق سيصبح نموذجاً لدول المنطقة، كما أن وزير الدفاع الأمريكي السابق رأى أن الأوضاع في العراق تعد مثالاً للمنطقة، رغم أنها غير مكتملة، وتجاهل حقيقة أن الأوضاع كارثية بكل أبعادها. فالوضع الأمني مترد، والعنف ما زال يجد طريقه إلى الساحة العراقية، كما أن الوضع الاقتصادي مترد أيضاً، حيث لا تتوافر الخدمات الأساسية في كثير من الأحيان، وتشح المواد المعيشية؛ ثم إن الديمقراطية التي تتغنى الولاياتالمتحدة بتحقيقها في العراق، وتعدّ ذلك هدفاً محورياً سعت إلى تحقيقه، هي ديمقراطية صورية مهلهلة، تعتمد على المحاصصة الطائفية القابلة للتفكّك أو الانهيار في أي وقت، فضلاً عن شحذ الانقسام الطائفي في العراق الذي يهدد بتقسيمه. ولعل الأكراد انفردوا بما يشبه الحكم الذاتي، أو الدولة داخل الدولة، ولها رئيسها وحكومتها وبرلمانها وعلمها، وقد تُجري مفاوضات مع شركات أجنبية للتنقيب عن النفط باعتباره مورداً حيوياً بمنأى عن الحكومة المركزية. وبرزت أخيراً دعوة إلى إقليم سني، وربما آخر شيعي. إن ما تعده الولاياتالمتحدة إنجازاً في العراق هو كارثة له، تمثلت في ملايين الضحايا والمشردين والمهجرين، وتدمير البنية التحتية والمؤسسية. ثم إن الديمقراطية التي تتغنى الولاياتالمتحدة بتحقيقها في العراق وتعدها الهدف المحوري لغزوها واحتلالها له هي ديمقراطية صورية محاصصية فصّلها المحتل وفق مقاس أهدافه ومصالحه وتوجهاته، إذ إن الديمقراطية الحقيقية المنبثقة من إرادة شعبية والمعتمدة على إرادة شعبية، ترفض الاحتلال من حيث المبدأ، وترفض أي وصاية لمحتل، وأي تبعية لمحتل. ومثل هذه الديمقراطية ترفضها الولاياتالمتحدة، لأنها لا تسير وفق هواها وهوى توجهاتها وأهدافها ومراميها. تجدر الإشارة إلى أن الولاياتالمتحدة حشدت حملتها لغزو العراق واحتلاله على أساس التخلص من أسلحة الدمار الشامل، ولم تكن الديمقراطية واردة في أجندة أهدافها المعلنة، واضطرت إلى محورة الهدف في تحقيق الديمقراطية بعد أن انكشف زيف الادعاء بوجود أسلحة دمار شامل. وهكذا أعلنت الولاياتالمتحدة الحرب على العراق واحتلته من دون غطاء دولي، ومن دون مظلة الشرعية الدولية، وارتكبت فيه جرائم حرب وإبادة، ولم تطلها المساءلة ولا المحاسبة وفق مرجعية القانون الدولي والشرعية الدولية.ومن المفارقات اللافتة للنظر، أن احتلال الولاياتالمتحدة للعراق مهّد لنفوذ إيراني واسع فيه، رغم الخصومة السياسية بين الدولتين. وبدت إيران مستفيدة إلى حد كبير من الأوضاع التي آل إليها العراق. وبالطبع فإن الانسحاب الأمريكي من العراق يترك المجال مفتوحاً لنفوذ إيراني أكبر في ظل غياب عربي. قد يقول قائل، ألم تقدر الولاياتالمتحدة ذلك قبل غزوها واحتلالها العراق بناء على دراسات استراتيجية، وهي التي لديها العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية التي يفترض أنها تعتمد عليها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بقرارات مصيرية مثل قرار الحرب؟ أم أن قرار الحرب جاء عشوائياً ومتخبطاً، وهو أمر يفترض أنه غير وارد في دولة تعتمد على المؤسسات؟ ربما تكشف الدراسات المستقبلية أبعاداً أكبر لهذا الغزو والاحتلال للعراق، وربما تستفيد الولاياتالمتحدة في الدرجة الأولى من هذه الدراسات، إن فاتتها الاستفادة من دروس سابقة.ومع هذا، فقد يذهب البعض إلى أن الولاياتالمتحدة تعد حساباتها وفق مصالحها، وأنها لن تترك العراق بعيداً عن هيمنتها، فقد وقّعت اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تحكم العلاقات بينها وبين العراق بعد انسحابها، كما أن هناك آلاف الجنود والمدربين والخبراء الذين سيبقون في العراق بذريعة حماية المصالح الأمريكية والمسؤولين الأمريكيين في سفارة هي أكبر سفارة لها في العالم. فضلاً عن أنها ربما تقوم بإعادة نشر بعض قواتها في قواعد لها قريبة من العراق. إن غزو الولاياتالمتحدة للعراق واحتلاله ليس مبرره تحقيق الديمقراطية، وليس مبرره إزالة أسلحة الدمار الشامل وهي غير موجودة. والولاياتالمتحدة لا تتكلّف أعباء في سبيل تخليص شعب عربي من ديكتاتورية مستبدة، بل هي تساند الديكتاتورية المستبدة متى ما تقاطع ذلك مع مصالحها، وتناهض الديمقراطية إن تعارضت مع مصالحها.ولهذا يرى البعض أن الاستحواذ على النفط العراقي هو البند الأهم في أجندة الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق. ولكن يرى آخرون أن الولاياتالمتحدة حرصت على منع التهديد العراقي لمنابع النفط إجمالاً باعتباره مصدراً حيوياً لها، ولهذا تعد أمن المنطقة جزءاً من أمنها القومي. فهل غزوها واحتلالها العراق كان بهدف الاستحواذ على نفط العراق، وفي الوقت نفسه منع التهديد العراقي لمنابع النفط ؟ ولكن ماذا عن التهديد الإيراني الذي تحشد الولاياتالمتحدة لمواجهته وسائلها الاقتصادية والإعلامية وربما العسكرية مستقبلاً، وتعده خطراً على المنطقة؟.