في مثل هذه الأيام من عام 1991م ، بدأت الحرب الأمريكية على العراق. وبعد أكثر من عقدين على اندلاع تلك الحرب، لا بد من وقفة عند بعض محطاتها، خاصة أن العراقيين لم يكتبوا شيئا عن حرب مدمرة قادتها الولاياتالمتحدة . فبعد أن توقفت الحرب نهاية شباط- فبراير من العام ذاته، انشغل العراق في فوضى داخلية، وما أن نفض بقايا غبار ودخان الحرب حتى وجد العراقيون أنفسهم أمام محنة الخراب والدمار الذي خلفته الغارات الجوية وصواريخ توماهوك ومقاتلات الشبح والقاصفات، إذ وجهت الولاياتالمتحدة أولى ضرباتها ليلة السادس عشر من يناير- كانون الثاني عام 1991 صوب أربعة وثمانين هدفا حيويا عراقيا، من بينها المصانع الكبيرة والمعامل ومحطات المياه والكهرباء.. وقبل شروق شمس اليوم الثاني جاءت الموجة الثانية من الصواريخ والقنابل، وكان سكان بغداد ومدن العراق الأخرى يشاهدون صواريخ توماهوك تجول بين المباني السكنية لتصل إلى أهدافها. ومع انتهاء الحرب وتوقف رائحة البارود، كانت البنية التحتية في العراق قد تحولت إلى ركام من الخراب والدمار، وللمرة الأولى يجد العراقيون أنفسهم بلا كهرباء، ولا يشاهدون التلفاز، وكل ما يصلهم من أخبار الدنيا، تبثه أجهزة المذياع التي تلتقط بث بعض الإذاعات العالمية. اختلطت الهواجس والمخاوف عند العراقيين، فهناك انفلات أمني في غالبية المدن العراقية، والدخان يلف أجواء العاصمة بغداد التي تردد أنها ستنهار أمنيا، وهناك من يتخوف من ظهور عصابات، ووسط هذه الأجواء المتوترة عاش العراقيون أياما في غاية الصعوبة. آلاف القتلى من المدنيين سقطوا بفعل الضربات الجوية والصاروخية، وهناك بعض المباني انهارت فوق رؤوس ساكنيها، وفي جبهة الحرب سقط آلاف الجنود والضباط بالقصف الأمريكي وتردد أن آلاف الجنود سقطوا أسرى لدى القوات الأمريكية.. وهنا اختلطت المشاعر عند العوائل العراقية، فهناك من يرقب وصول الأبناء من جبهة الحرب، وهناك من تتوزع مشاعره بين هذا الاحتمال وذاك، وعاش العراقيون عدة أسابيع تحت عواصف الهواجس والتوقعات، وفي جميع الأحوال فإن انتظار ما هو أسوأ كان في المقدمة.بعد شهرين بدأت حملة إعمار ما دمرته آلة الحرب الدولية على العراق التي كانت بزعامة الولاياتالمتحدة، وانشغل العراقيون بمهمة إعادة التيار الكهربائي الذي اختفى من بيوت العراقيين منذ الأيام الأولى للحرب، وقبل أن تمضي أسابيع بدأ التيار يتسلل إلى الأحياء في بغداد والمحافظات الأخرى، أما دورة الحياة العراقية فقد بدأت في وقت مبكر، فما أن اطمأن الناس إلى الجانب الأمني حتى عادت الحياة، وعاد ليل بغداد ينتعش من جديد، ولكن لم يوثق العراقيون الشيء الكثير عن الحرب، وأخذتهم انشغالات الحياة اليومية، ولم تخرج تفاصيل الحرب من حدود الحديث الشفاهي الذي يرويه الجنود والضباط وما يردده الناس في المدن والقرى العراقية. خلال مرحلة إعادة إعمار ما دمرته الحرب، برزت قضية أخرى تحمل بين طياتها تفاصيل حرب ليست بالسهلة، وجاءت فرق التفتيش الأممية للبحث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وهذه القصة طويلة ومعقدة وتحتاج إلى أكثر من وقفة، إلا أنها شغلت العراقيين الذين ربطوا بارقة الأمل للتخلص من وطأة الحصار القاسي بنتائج تقارير تلك اللجان، فكان الانتظار أهم بكثير بالنسبة للعراقيين من الحديث عن فترة الحرب، فإذا كانت الصواريخ والقنابل قد أتت على المباني والمصانع وحصدت آلاف الأرواح، فإن حقبة الحصار كانت أقسى وأصعب لأنها تشمل جميع العراقيين وبدون استثناء، فالعائلة العراقية المعروفة بالقدرات الشرائية الجيدة، وجدت نفسها فجأة تحت لافتة الحاجة التي تسارع وقعها لتتحول إلى الفاقة عند الكثير من العراقيين، ولم يكن أمامهم إلا تقديم الأهم على المهم، فكان العمل اليومي على تفادي حاجة العائلة، من طعام وملبس ودواء، لها الأولوية في كل شيء. تلك الحقبة التي انطوت على حقبتين متداخلتين عاشهما المجتمع العراقي وعانى كثيرا خلالهما، لا يمكن تجاوزهما دون دراسات اجتماعية وسياسية، إنهما حقبتا الحرب والحصار.