تحاول آلة الحرب النفسية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي احتواء قوة الدفع المعنوية الكبيرة التي منحها اتفاق تبادل الأسرى للشعب الفلسطيني وتشويش الرسالة الفلسطينية الأهم فيه المتمثلة في الوحدة الوطنية التي جسدها والرسالة التي لا تقل عنها أهمية المتمثلة في أن كل الانجازات الهامة لحركة التحرر الوطني الفلسطينية حققتها المقاومة التي حاول الاحتلال وراعيه الأميركي، ولا زالوا يحاولون، القضاء عليها بالمفاوضات بعد أن عجزوا عن القضاء عليها عسكريا. لذلك نرى الاحتلال اليوم يسوق الاتفاق باعتباره انتصارا للمقاومة على مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية، ول"حماس" على "فتح"، وليس باعتباره انتصارا لكل الشعب الفلسطيني على الاحتلال، يوحده في فرحة انتصار مقاومته في تحرير بعض أسراها. ومن هنا كان اتصال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، ورئيس حكومتها في غزة، اسماعيل هنية، بالرئيس محمود عباس لاطلاعه على تفاصيل اتفاق التبادل، وترحيب عباس بالاتفاق، ردا إيجابيا في محله، لن يكتمل إلا بتحويل استقبال الأسرى المحررين الى عرس شعبي للوحدة الوطنية، يقطع الطريق على مناورات إعلامية إسرائيلية تستهدف التغطية على عجز دولة الاحتلال بكل جبروتها العسكري عن تحرير جنديها الأسير جلعاد شاليط بعد مضي خمس سنوات على أسره، وعجز "موساد"ها و"شاباك"ها وعيون زرقاء اليمامة والأيدي الطويلة التي تدعيها لأجهزة مخابراتها حتى عن معرفة مكان أسره. وبالتالي فإنها مناورات تستهدف منع الرأي العام في دولة الاحتلال من رؤية الاتفاق على حقيقته باعتباره اعترافا معلنا مدويا بالعجز قبل أن تستهدف الحط من قيمته في أوساط الرأي العام الفلسطيني واستغلاله أداة لمنع تحوله الى رافعة جديدة للوحدة الوطنية الفلسطينية، خصوصا وأن قوة رسالة الوحدة الوطنية التي حملها الاتفاق وجسدها في توزيع الأسرى المحررين على كل الفصائل وكل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، ومنها "المحرمات" الإسرائيلية السابقة التي حالت دون شمول اتفاقيات تبادل الأسرى التي أبرمها مفاوض منظمة التحرير لتحرير أسرى من القدسالمحتلة عام 1967 أو من فلسطينالمحتلة عام 1948، باعتبار المنطقتين خارج صلاحيات المنظمة بموجب اتفاقيات أوسلو سيئة الصيت الموقعة مع دولة الاحتلال.ومن الحجج التي تسوقها الحرب النفسية الاسرائيلية للحط من قيمة الاتفاق فلسطسنيا وللتغطية على عجز دولة الاحتلال داخليا عدم شمول الاتفاق لقيادات فلسطينية أسيرة مقاومة وسياسية. ومع أن ذلك ما زال بحاجة الى تأكيد قطعي، فإن عدم تحرير القيادات الأسرى إن تأكد له علاقة وثيقة بالوحدة الوطنية والمصالحة الفلسطينية. فخطر قيادات مثل مروان البرغوثي وأحمد سعادات وإبراهيم حامد وعبد الله البرغوثي وعباس السيد وغيرهم على الاحتلال لا يكمن في كون هؤلاء أكثر جرأة أو مهارة في مقاومة الاحتلال من أي أسير أو أسيرة سوف يحررهما الاتفاق بل يكمن في كونهم قد تعالوا على الولاء الفصائلي ليتشاركوا في صياغة "وثيقة الأسرى" للوحدة الوطنية وفي حقيقة أن الافراج عنهم سوف يفتح الباب واسعا أمام تنفيذ ما اتفقوا على صياغته، وسوف يغير في المعادلة الفلسطينية الداخلية بحيث يرجح كفة الساعين الى انجاز الوحدة الوطنية في أسرع وقت ممكن، ويحاصر من ما زالوا يتذرعون بأوهام التفاوض الخادعة لمحاصرة المقاومة كشرط مسبق لاستمرار التفاوض كخيار استراتيجي وحيد، وبالتالي لاستمرار الانقسام، بقدر ما سيكون خروجهم من سجنهم الصغير الى سجنهم الكبير قوة دفع ستكون على الأرجح حاسمة في إنهاء الانقسام الفلسطيني الراهن. وهذا هو السبب الحقيقي لاصرار حكومة دولة الاحتلال على عدم الافراج عنهم. غير أن توحد الشعب الفلسطيني في الاحتفال بالاتفاق كانجاز وطني لإفشال أهداف الحرب النفسية الاسرائيلية لا ينبغي له أن يغطي على حقيقة أن المقاومة توحد والتفاوض يفرق ويثير الانقسام. ولأن الأسرى هم في الأصل مقاومون وقعوا في الأسر، فإن المقاومين والأسرى يتكلمون لغة واحدة وموحدة (بكسر الحاء) بالرغم من الانقسام المصطنع المفروض على فصائلهم من الخارج، لأن العلاقة عضوية بين المقاومة وبين الأسرى، وقد اثبتها مجددا شمول اتفاق تبادل الأسرى على التزام الاحتلال بتنفيذ مطالب الأسرى المضربين عن الطعام الآن في سجونه كجزء من الاتفاق. ويأتي هذا الإنجاز الوطني كبصيص نور في النفق المظلم الذي تمر فيه القضية الفلسطينية حاليا، يأتي من المقاومة ويسلط الضوء على أهمية العودة للمقاومة كمصدر لكل الإنجازات الوطنية التي تحققت حتى الآن، من الاعتراف الدولي بوجود شعب فلسطيني الى الاعتراف بوجود ممثل شرعي له حتى إنجاز الاتفاق الحالي لتبادل الأسرى أخيرا وليس آخرا. ويأتي هذا الانجاز وسط حملة تيئيس دولية تقودها الولاياتالمتحدة وتتبنى دعوة دولة الاحتلال الى "خفض توقعات" الشعب الفلسطيني من المجتمع الدولي الذي يراهن مفاوض منظمة التحرير عليه بديلا لمقاومة الاحتلال على الأرض. فواشنطن التي أعلنت آخر إدارتين حكوميتين فيها في عهدي الرئيسين الحالي باراك أوباما والسابق جورج بوش أن قيام دولة فلسطينية في إطار "حل الدولتين" هو "مصلحة قومية" لها تقيم الدنيا ولا تقعدها اليوم لمنع اعتراف الأممالمتحدة بهذه الدولة التي فشلت وساطتها المنحازة غير النزيهة في رعاية قيامها خارج إطار المنظمة الأممية طوال عقدين من الزمن،.