تحدث الروائي والشاعر عواض العصيمي في الجزء الأول من اللقاء الذي أجريناه معه عن تجربته في السرد وخياراته الإبداعية ونفى أن يكون إهماله للشعر العامي من باب التعالي، ولكن لأن القصة والرواية فتحت أمامه خيارات أوسع وكذلك عن ذائقته تجاه ما يكتب من الشعر العامي وعن التحول الإيجابي في مشواره الإبداعي ونوه إلى أنه ليس من فرسان شعر الفصحى لأنه وجد في الرواية والقصة ما يغنيه عما لا يحسن. وفي الجزء الثاني من لقاء الروائي والشاعر عواض العصيمي الذي نحتفي بنشره لكم هذا العدد في (ملامح صبح) يجيب (أبو ياسر) على ما تبقى من الأسئلة التي كنا قد طرحناها عليه.. وإلى نص اللقاء.. *هل كتبنا الصحراء في رواياتنا؟ وهل منجزنا الروائي يعكس واقعنا الحقيقي مثل أدب أمريكا اللاتينية؟ محمدالغامدي - إعلامي - الإعلامي محمد الغامدي، هل كتبنا الصحراء في رواياتنا؟ في تقديري، حتى الآن لا يزال هذا الفضاء يحجبه عن الظهور منتج المدينة، ولهذا الحجب أسباب ثقافية ومكانية وأسباب أخرى لم تستنفد بعد شغفها بالحضور في المقدمة وإعلان سطوتها على المشهد السردي، إن بسبب الوفرة العددية في الأسماء التي تدور في فلك المدينة أو بسبب تنائي الصحراء نفسها عن الامتثال للكتابة من داخلها وليس من تخوم المدينة، فهذا الفضاء الشاسع يصعب إقحامه في الكتابة من الغرفة والشارع والمتنزه وبقية أوصال المدينة كمركز حضري قائم ومستقر، إلا إذا كان الكاتب على دراية جيدة بموضوعه وله من الخبرة أوتاد متينة مضروبة في الصحراء سواءً من ناحية معايشة سابقة أو حاضرة ومستمرة، لكن هذه العلاقة وحدها لا تكفي ليكتب المرء عن الصحراء بسهولة فالمعايشة الشخصية ليست بشيء إذا لم يقوها البعد الثقافي ورسوخ العلاقة بالاجتماعي وفهم الحياة البدوية بالقدر الذي يتيح للكاتب مدى أوسع في التمييز بين صوت الجماعة وصوت الفرد، وتفصيله الخاص ومجمل العام، أو لنقل على سبيل المثال للتمييز بين الإتيان بالتل دفعة واحدة وبين وضع حبيباته الرملية على منخل دقيق يفرز الأحجام والألوان لمعرفة تكون التل بذلك الشكل العصي على الفرز من بعيد. وعلى الرغم من ذلك فإن هذه المحاولات على أهميتها تظل على شفا أن يقع الكاتب في جاذبية الترافع باسم الصحراء دون وعي منه، فالمكان له سطوته الحسية والمعنوية بما له من قدرة على الإفصاح بمكنوناته في سياق الامتثال لصورته وصوته وتاريخه، لذلك يفترض أن يتنبه المغامر في هذا الفضاء لحساسية موقعه وموقفه من المكان ضمن الشرط الفني والأخلاقي لمنح نفسه مرونة الحركة دون ارتهان إلى العاطفة أو الوجدان. الشيء الآخر، أن الصحراء ليس من الأبعاد الطوبوغرافية والثقافية والاجتماعية فقط يمكن النظر إليها باعتبارها مادة روائية متكاملة، فالكتابة على هذا الأساس لا تتجاوز كونها تمهيداً لعمل يمكن أن يكون جيداً ولكنه سيظل محصوراً في خامته الأساسية إذا لم يتم تحريكه باتجاه الواقع الماثل والزمن الذي نعيشه والحياة التي نحياها في حاضرنا الراهن. هل منجزنا الروائي يعكس واقعنا الحقيقي مثل أدب أميركا اللاتينية؟ أعتقد أن لكل تجمع بشري ظروفه ومشكلاته كما له تحولاته في سياق حراكه الاجتماعي والثقافي والسياسي، لكن يفترض من المثقف عموماً والمبدع خصوصاً أن يكون في مقدمة القوى التي تنشد التغيير الإيجابي في مجتمعاتها، والمبدع تحديداً بالرغم من المصاعب الجمة التي تقف حائلاً بينه وبين حريته في نقد الظواهر السلبية في مجتمعه وفي فضح الفساد بكافة أنواعه وأصنافه، وفي الوقوف ضد الظلم والقهر والجهل والعصبيات على اختلافها، هذا المبدع ليس أمامه خيار آخر، هذا هو قدره في الحياة، أن يكتب كمناضل بالكلمة من موقع مسؤوليته الأدبية والأخلاقية والحضارية في صف الحق والخير بكل ما يملك من صدق وإرادة إنسانية وذاتية. *أين يقرأ الرائع عواض صورته الداخلية، في الشعر أم في الرواية؟ بماذا تفسر اختفاء النقد من فلك الشعر الشعبي؟ هل يتسع الشعر الشعبي للوعي الجديد وأنماطه الفكرية أم أنه محدود في وعيه كما هو محدود بلهجته؟ د. نايف الجهني روائي وشاعر وناقد -الروائي والشاعر نايف الجهني، يا صديقي الأقرب دائماً، أزعم أنني في الشعر رأيت صورتي الداخلية تسلمني إلى حالة من الكثافة يصعب تقصيها، هناك شيء مني أعرفه لكني أحتاج إلى تفكيكه لأصافحه إن كنت اختزلته بالشعر على نحو يليق به أو لأسامحه إن كان تمثلني فوق ما أريد، الحالة الشعرية في لحظتها تقودنا إلى ما لا نتوقع ولا نحتسب، إنني معها على عكس ما أنتظر، وأنت شاعر رائع وتدرك ما أقصد، لكن الرواية مع شيء من الصبر والتركيز والمزيد من الوقت تهديني العالم كله وتفتح لي مغاليق المجهول في عبارة أو حدث أو حتى في كلمة جاءت في وقتها، وأكون لحظتها الشاهد الوحيد على حدوث تغير النقلة المناسبة في المشهد، إما في صورة منشئ النص، ذلك القريب للغاية من شخوصه، وإما في صورة الحدث لحظة انبلاجه من تفصيلة مباغتة، ولكن تبقى ثمة مساحة للنظر والتأمل دون الوقوع في احتياطات مفتعلة، إنها لحظة التنبه لأصغر الأشياء وأخفها وهي في الوقت نفسه لحظة الحذر من الوقوع في غوايتها الظاهرة وجاذبيتها المحسوسة، إذاً هي ليست حالة شعرية وإن كانت لصيقة بها، كما أنها في العملية الكتابية ليست حالة مزاجية بقرار اعتباطي، إنها على قدر من التعقيد لا تجهله أنت كروائي. أما اختفاء النقد من فلك الشعر الشعبي فله ما يبرره على ما أعتقد، الشعر الشعبي في مجمل ما يُكتب منه يفتقر إلى مشروعية حضوره إذا ما قيمناه من الناحية الإبداعية، الإبداع قليل كما تعرف، وفترة الثمانينيات التي تألقت فيها نصوص جميلة لم تحظ بنقد مواكب يعمق حضورها في حقبتها الزمنية، ولو حدث ذلك لكان لدينا الآن ما يمكن الاحتجاج به على أجيال أتت لاحقاً لم تجد في فضاء الشعر العامي إلا الشعر نفسه، ومعظمه من المستوى المتهالك والفج، وكان البناء عليه يقوم على الأدوات نفسها والذائقة الفنية ذاتها التي أنتجت لا شيء يذكر، فالشاعر اليوم يولد في الصفحة التي اعتاد النشر فيها وينمو في أحضان المجموعة التي يعيش معها، واللغة مرتبطة بالمتحقق وليس بالمبتكر، والتفكير يتم توارثه بالطريقة نفسها، وعلى الرغم من انفتاح العصر التقني على أبعاد معرفية وثقافية هائلة الاتساع إلا أن التلقي عند كثير من الشعراء الشعبيين يتم شفاهياً على جري العادة القديمة في تلقي الشعر الشعبي من أفواه الرواة، واتسعت إلى درجة كبيرة توجهات هؤلاء الشعراء لمصلحة الماضي والمنقضي، وهذا أمر محير بالفعل، إذ كان يفترض أن يحدث العكس، إلى الأمام وليس إلى الوراء، لكن أحد الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة أن الشعر الشعبي يتم التعامل معه لأسباب ترفيه ووجاهية، للحصول على صيت إعلامي قد يؤدي إلى مجلس شيخ غني أو وجيه ثري يمكن الحصول منه على شرهة أو على وظيفة (خوي) في ديوان سموه أو معاليه، وهذا ما أدى إلى ابتذال الشعر الشعبي واستخدامه من أجل التكسب وتحسين الوضع المعيشي والاجتماعي، خذ برنامج (شاعر المليون) على سبيل المثال وتأمل المحصلة النهائية التي انتهت إليها نتائجه وآثاره، شعراء في الخدمة لكل المناسبات، شعراء لمزاين الإبل، شعراء اندلعت بينهم حروب شعرية تبث من اليوتيوب تحضر فيها القبيلة والعزوة والتفاخر بالأنساب، شعراء أصبحوا في فترة وجيزة (خويا) لهم شنة ورنة في أوساطهم وبين أصدقائهم. أصبح الشعر الشعبي في هذه المجالات تعليقة ذهبية توضع على الاسم والصورة فحسب لتسهيل الحياة وتيسير الأحوال، أو لتخريب العلاقات الاجتماعية بين أبناء القبائل للأسف الشديد، بهذا يكون الشعر الشعبي أداة تخلف حضاري وثقافي في غاية الخطورة. *ظاهرة الانتخابات في الأندية الأدبية كيف تراها من حيث الفكرة والتطبيق؟ وهل أنت مع الأصوات التي ترى ارتباك العملية الانتخابية بدءاً بشروط من يحق له الانضمام للجمعية العمومية وليس انتهاء بغياب الوضوح والشفافية أثناء التصويت وإعلان فوز المرشح لمجلس الإدارة؟ فوزي المطرفي قاص وروائي - الروائي والقاص فوزي المطرفي، أتحدث حول هذا الموضوع من موقع المتابع وليس من موقع المشارك، وما أتابعه أنا كطرف من خارج النادي قد لا يكون بالدقة التي نتوقعها ممن خاض معترك الانتخابات وشارك فيها، لكن من موقع المتابع يمكن القول إن العملية الانتخابية بحد ذاتها خطوة جيدة في إطار اللائحة التنظيمية للأندية الثقافية التي أقرت من وزارة الثقافة والإعلام ووافق عليها الأدباء والمثقفون المعنيون بالحراك الثقافي، والجدل بدأ بعد تدشين مرحلة الانتخابات بدءاً بنادي مكة الأدبي ويبدو لي أن الآلية التي اعتمدتها وكالة الشؤون الثقافية لتنفيذ الجزء المتعلق بالتصويت لأعضاء المجالس الجديدة لم تكن على قدر ما كان يطمح إليه الأدباء من شفافية ووضوح، لكن هذه الأمور يمكن معالجتها باللجوء إلى النظام نفسه وتقديم الطعون التي يتفق عليها المتحفظون على النتائج، ومن الطبيعي أن نرى مثل هذه الأشياء في ظل حداثة الفكرة نفسها على المستوى التطبيقي وما تحدثه من مواقف متضاربة وتساؤلات مشروعة عند النظر إلى ثقافة الانتخابات باعتبارها ممارسة جديدة في واقعنا الثقافي والتعاطي معها لا يزال في بدايته، لكن ما أخشاه هو أن تتسرب إلى العمل الثقافي أطراف غريبة عنه، ووجوه لم يعرف عنها ما يذكر في هذا الشأن وهنا يمكن توقع اعتلالٍ ما إما عن عمد أو لسبب عدم التخصص، يصيب العمل الثقافي بالضمور والجفاف وقد يمتد إلى اضطرار الأدباء إلى هجر الأندية والنفور منها، ما يعني انتفاء الآمال التي نشأت من فكرة اللائحة التنظيمية ومن الوعود التي قدمتها الوزارة ممثلة في وكالتها للشؤون الثقافية. *القنوات الفضائية المخصصة للتراث الشعبي لم تقدم منجزاً حقيقياً وغالبيتها نسخ مكررة، تفتقد الجودة من ناحية الأفراد العاملين بها وضعف الإنتاج والإدارة الفنية. برأيك كيف تتجاوز المرحلة لتستمر؟ عبد الله زويد- شاعر وإعلامي الشاعر والإعلامي عبد الله زويد، في رأيي، أعتقد أن هذه القنوات لم يحكمها في الأساس منهج إعلامي وثقافي معتمد من وزارة الثقافة والإعلام، يأخذ في اعتباره ضرورة إبراز الهوية الثقافية للوطن في معانيها الحضارية وغاياتها الإنسانية التي تتيح لمتأمليها تكوين مفاهيم إيجابية تجاه إنسان البلد والمشتركات العامة التي توحده في إطار المواطنة والبناء. لا أعتقد أن هذه الأهداف والغايات موجودة في شكل فعَّال في برامج وأعمال هذه القنوات، وأنا أركز على هذه النقطة المهمة لأن منها تنطلق الصورة والمشهد والكلمة إلى آفاق العالمية وليس فحسب إلى الأفق المحلي، وغيابها يحيل القناة إلى مستهلك تقليدي لمنتج ثقافي يعيبه الارتجال والخلط كما يعيبه سوء التوظيف من البعض وعدم التقدير من آخرين، نظراً لاتكائه على مكونات ثقافية تحف بها حساسيات اجتماعية وتاريخية سواء من البُعد القبائلي أو من البُعد التمثيلي على مستوى المادة المعروضة، ولعل في تعدد هذه القنوات واختلاف من يديرها من ناحية انتمائهم القبلي ما قد يشير إلى تعارض الأهواء والتوجهات تبعاً لموقف كل منهم من المحتوى الذي تقدمه كل قناة على حدة، وقد سمعنا بمثل هذه الاحتكاكات في نقائض هجائية مسجلة على أشرطة الكاسيت في فترة مضت، وتورط بعض القنوات في بثها على الملأ، كما أن المحتوى العام الذي تبثه القنوات على شاشاتها عبر الرسائل النصية يتسم بالضحالة والتسطيح ومعظمه يمجد القبائلية بالمعنى الذي ذهب إليه الناقد الثقافي عبدالله الغذامي، وفي شكل عام أتمنى لو تُقيَّم هذه القنوات ويُعاد النظر فيها لتكون وسائل جذب للجميع وزاداً ثقافياً ومعرفياً لكل الناس وليس لفئات اجتماعية محددة سلفاً.