أصبحت مناطق وسط آسيا والقوقاز والبلطيق كلها بمثابة نقاط تماس هامة وحيوية في حرب النفوذ الدائرة رحاها الآن بين الولاياتالمتحدةوروسيا، فالأولى متورطة في حربين تستنزف مواردها وقواها، والثانية انتعش اقتصادها بسبب ارتفاع أسعار النفط وبدأت تسعى لبسط نفوذها من جديد، وقد تلاحقت الأحداث مؤخرًا في وسط آسيا بانهيار الثورات الملونة وبانعكاس تيارها ومدها، ليصب في مصلحة موسكو في كثير من الأحيان، وجاءت قيرغستان وأوكرانيا كآخر حلقات المسلسل المثير في حرب النفوذ والقواعد الأمريكية الروسية. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودخول العالم في حقبة القطبية الأحادية، تمكنت الولاياتالمتحدة من تقليم أظافر الدب الروسي منذ تسعينيات القرن الماضي؛ حيث دخل في حالة من السبات العميق بسبب تردي أوضاعه الاقتصادية، وبدأت الولاياتالمتحدة في الاقتراب من أطرافه لتنهش منها؛ حيث استطاعت أن تتدخل في البلقان ضد حليفته صربيا الأرثوذكسية بعد تفكيك يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي، وفي شرق أوروبا انفرط عقد النفوذ الروسي وبدأت دول المنطقة تسعى إلى دخول الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا والمجر ورومانيا وبلغاريا والتشيك، بالإضافة إلى دول البلطيق إستونيا ولا تفيا وليتوانيا. ثم ظلت الولاياتالمتحدة تتقدم في ميراث الاتحاد السوفيتي السابق واستطاعت أن تنشئ لها عدة قواعد عسكرية في دوله، وأعقب ذلك عدة ثورات على أنظمة موالية لروسيا فيما عرف بالثورات الناعمة، البرتقالية والمخملية والوردية والتيوليب، واستطاعت الولاياتالمتحدة في النهاية أن تحيط بموسكو من كافة أقطارها، وبدأت أمريكا بعد ذلك في تضييق الخناق على الدب الروسي الذي حاصرته المشكلات السياسية والعسكرية والاقتصادية، لتضع الولاياتالمتحدة مواطئ قدم لها على معظم حدوده، في بولندا وألمانيا وأوكرانيا وجورجيا وتركيا وأوزبكستان وقيرغستان وأفغانستان، حتى جاء الخطأ الأمريكي الاستراتيجي الذي استفادت منه روسيا بشدة، ألا وهو حربا العراق وأفغانستان. الصعود الروسي: كان من ضمن الأهداف الأساسية لغزو العراق وأفغانستان هو مزيد من تضييق الخناق على روسيا في منطقة نفوذها والسيطرة على تلك المنطقة الغنية بالمصادر الطبيعية، وكذلك السيطرة على مسارات خطوط الأنابيب الحيوية التي تنقل الغاز من دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى الجنوب والغرب، ثم وضعت الولاياتالمتحدة أقدامها في العراق لتدخل في حرب على جبهة ثانية بدون حسم الجبهة الأولى في أفغانستان، وكان ذلك هو الخطأ الاستراتيجي الجسيم الذي اقترفته الولاياتالمتحدة من حيث التخطيط؛ حيث كان الهدف هو تنصيب حكومة موالية لها هناك لتصبح أكبر قاعدة في الشرق الأوسط، ولكن جاءت المقاومة العراقية غير المتوقعة ومن بعدها حكومة موالية لإيران لتتعقد الأمور، وأدى ذلك الغزو إلى غرق الولاياتالمتحدة في مستنقع العراق، وانشغلت أمريكا بمشكلاتها هناك بإنفاقها المتزايد على الحرب بدون أن ترى نهاية في النفق المظلم، وفشلت في تنصيب حكومة عميلة لها في بغداد، كما أدت الحرب إلى ارتفاع أسعار النفط إلى أرقام فلكية، وهو ما كان بمثابة قبلة الحياة للدب الروسي الذي كان على وشك التجمد في صقيع سيبيريا القاتل. ومنذ حرب العراق بدأت روسيا بتدفئة أوصالها بعائدات النفط بعد أن تخطى البرميل حاجز المائة دولار، وبدأت روسيا في الألفية الجديدة بقيادة بوتن بالسعي إلى استعادة النفوذ الروسي مرة ثانية، وهو ما كان له تجلياته في عكس اتجاه الثورات الملونة، والتي نشهدها حاليًا في وسط وغرب آسيا. واليوم بدأ النفوذ الروسي يتصاعد من جديد، ودخل الطرفان فيما يمكن تسميته ب "حرب القواعد"؛ حيث يخوض الطرفان الآن بين بعضهما البعض حربًا معلنة على النفوذ وعلى السيطرة على القواعد في آسيا، وهو ما سيلقي بظلاله على شكل النظام العالمي في الفترة المقبلة. إستراتيجية أمريكا هناك أربعة عناصر أساسية في إستراتيجية الولاياتالمتحدة لغزو العالم والسيطرة عليه وهي: السيطرة على الاقتصاد العالمي والأسواق المالية, ووضع اليد على مصادر الثروة الطبيعية في القوقاز عبر النفوذ ونشاط الشركات متعددة الجنسيات, ثم التحكم في المنظمات الدولية السياسية والأمنية والاقتصادية, واخيراً شبكة من القواعد العسكرية المنتشرة في أركان الكرة الأرضية (في القارات, والمحيطات والجو, والفضاءات) فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي اعتمدت الولاياتالمتحدة في عقيدتها القتالية على القواعد العسكرية المنتشرة حول العالم وذلك لتعظيم النفوذ الأمريكي العالمي؛ حيث تمكن تلك القواعد الولاياتالمتحدة من السيطرة عبر أسطولها البحري الممتد وحاملات الطائرات على المجاري المائية والمسارات التجارية العالمية، واعتمدت الولاياتالمتحدة على وجود قواعد بها قوات خفيفة وسهلة الحركة وسريعة الاستجابة في أقطار الأرض الأربعة من أجل احتواء النفوذ الروسي واستمرار الهيمنة الأمريكية، لذا فإن البحار الشمالية مثل بحر قزوين والبحر الأسود وبحر الشمال وبحر البلطيق كلها تخضع للاهتمام الأمريكي لاحتواء روسيا، ومن ثم نبعت أهمية دول البلطيق وشرق أوروبا، وكذلك البحار الأساسية مثل البحر المتوسط والبحر العربي والمحيطات الكبرى في العالم، وذلك بتنصيب قواعد في تركيا وفي دول وسط آسيا، وذلك لضمان السيطرة على مسارات التجارة وخطوط الأنابيب وضمان نقل النفط والغاز والبضائع الأخرى الهامة للعالم الصناعي الغربي. الاقتراب في وسط آسيا: في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي واصلت الولاياتالمتحدة تضييق الخناق على روسيا من خلال قواعدها العسكرية ومن خلال حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، ومن خلال الاتحاد الأوروبي لضم دول أوروبا الشرقية إليه، ومن ثم تنصيب القواعد العسكرية للناتو فيها وكذلك نصب منظومة الدرع الصاروخية في بولندا والتشيك، وهي قضية لا تزال شائكة حتى اليوم بالرغم من أن واشنطن أجلتها، إلا أن روسيا تعتبرها تهديدًا مباشرًا لأمنها وسيشعل سباق تسلح جديد والتواجد العسكري الأمريكي وراء البحار هو احد أعمق مرتكزات الإستراتيجية العسكرية الأمريكية, حيث تحتاج الولاياتالمتحدة إلى قواعد ومحطات في أوروبا وشمال شرق آسيا وكذلك إلى تأسيس شبكة قواعد دائمة من أجل توفير الإمكانية العسكرية اللوجستية لتحريك القوات الأمريكية لمسافات واتجاهات مختلفة ضمن الإطار الجيواستراتيجي لها . فيوضح الشكل أعلاه القواعد العسكرية الأمريكية الأساسية في وسط آسيا، والقواعد الأخرى الموجودة في جورجيا وفي قيرغستان، وطاجكستان، هذا بالإضافة إلى القواعد الأخرى وسط آسيا مثل قاعدة دييجو جارسيا في المحيط الهادي بالمشاركة مع القوات البريطانية والتي تعد قاعدة دعم لأسطولها ولجيشها في وسط آسيا، وقواعدها الجوية في اليابان (كادينا بأوكيناوا وميساوا ويوكوتا)، وقاعدة أنجرليك الجوية في تركيا، بالإضافة إلى قواعد في كوريا الجنوبية وفي الفلبين. وفي أوروبا الشرقية هناك قواعد بويدز وكرزيسني الجوية في بولندا، وقاعدتي بيزمير وجراف إجناتيف الجويتين في بلغاريا بالإضافة إلى قاعدتين أرضيتين وهما مركز آيتوس اللوجستي ونوفو سيلو، ومرفأ البحر الأسود كونستانزا في رومانيا، ويمكن وضع قوات في ليتوانيا، وفي ألمانيا قاعدة رامشتين الجوية التي تعد مدينة مستقلة هناك والوجود الأمريكي بوسط آسيا يتركز أساساً في قاعدة "ماناس" الجوية في قيرغيزستان والتي حدث فيها الانقلاب الأخير لصالح الدب الروسي، وتقع تلك القاعدة شمال العاصمة بشكيك، حيث تضم أكثر من ألف جندي أمريكي، وفضلاً عن ذلك فإن الولاياتالمتحدة ترتبط بالعديد من الاتفاقيات مع بلدان وسط آسيا، تتيح لها استخدام مجالها الجوى والهبوط الاضطراري للتزود بالوقود، كما قامت الولاياتالمتحدة أيضاً بعدة ترتيبات مع طاجيكستان من أجل السماح للطائرات العسكرية الأمريكية بالتحليق فوق أراضيها، في إطار مهمتها في أفغانستان، والهبوط أيضاً للتزود بالوقود . تصاعد النفوذ الروسي: تعلم روسيا أن اهتمام واشنطن بإنشاء قواعد عسكرية في آسيا الوسطى لا يرتبط أساساً بعملياتها العسكرية في أفغانستان، بقدر ارتباطه بمحاولات التغلغل في الإقليم وتدعيم نفوذها وحضورها الإستراتيجي، خاصة وأن الوجود الأمريكي في أفغانستان يسمح لها بإقامة ما تريد من قواعد في أنحاء البلاد، دون حاجة لقواعد خارجية، قد يكون بعضها بعيداً وفائدته محدودة، مثل قاعدة "خان أباد" التي تقع على بعد 120 ميلاً شمال الحدود الأفغانية، وهي مناسبة تماماً الأعمال العسكرية في شمال أفغانستان،. لذا بدأت روسيا في السعي إلى مد نفوذها خارج إطار حدودها الجغرافية، ولذلك وضعت لها استراتيجية أولية للسيطرة على أربع دول رأت أنها حاسمة لخططها في أن تصبح قوة عالمية من جديد، وتلك الدول الأربعة هي أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان وجورجيا، وقد تمكنت من السيطرة على الدول الثلاثة الأولى وإدخالها تحت السيطرة الروسية، أما الأخيرة وهي جورجيا، فلا تزال في جوهر التركيز الروسي حتى تعيدها مرة أخرى إلى فلكه ويأتي ذلك ليس في إطار سياسة توسعية روسية بل في إطار سياسة دفاعية؛ حيث إن روسيا تعد دولة ممتدة بدون حواجز طبيعية تحمي حدودها مثل المياه للولايات المتحدة لذلك فإن العقيدة العسكرية الروسية تعتمد في أساس دفاعها على التمدد لخلق مناطق عازلة لحدودها الجغرافية، وكذلك لدرء الخطر الغربي متمثلاً في الولاياتالمتحدة وحلف الناتو ، لذا تهدف روسيا دائمًا إلى خلق تلك المناطق العازلة بينها وبين أوروبا وآسيا والعالم الإسلامي. وتعد أوكرانيا هي حجر الزاوية للدفاعات الروسية كما أنها كانت مسرحًا لحرب القواعد الأمريكية الروسية أيضًا، حيث وقعت فيها الثورة البرتقالية، ثما ما لبث أن تغير المد بمجئ رجل روسيا فيكتور يانوكوفيتش رئيسًا للبلاد خلفًا ليوليا تيموشينكو الموالية للغرب في 4 مارس الماضي؛ حيث إن تلك الدولة تأوي أكبر تجمع روسي في العالم خارج روسيا، وتعد امتدادًا طبيعيًا للصناعة والزراعة الروسية، كما أنها تعد نقطة عبور لما يقرب من 80% من الغاز الطبيعي الروسي الذي يتم شحنه من روسيا إلى أوروبا، كما أنها تعد همزة الوصل لمعظم البنية التحتية للصناعات الروسية سواء عبر خطوط الأنابيب أو الطرق أوالسكك الحديدية التي تسير بين روسيا والغرب وتعد أوكرانيا هي جوهرة التاج لروسيا والتي تمكنها من استعادة نفوذها وسيطرة أسطولها على المنطقة، ومنع تلك الدولة من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى حلف الناتو والسقوط في الفلك الغربي.