رواية الكاتب محمد البساطي «أسوار» تتميز بنوع من الثرثرة السردية الدافئة. والثرثرة هنا إشادة لا مذمة فهي التي تخلق جوا من المتعة ونوعا من الاسترخاء وشبه الخدر عند القارىء يرافقه استرسال في القراءة بسهولة وإنسياب. صحيح أن البساطي لا يرسم شخصيات مميزة ويدخل في أغوارها النفسية والفكرية وأن شخصياته الرئيسية ذات ادوار باهتة وغير فاعلة وتبدو حتى في الرئيسي منها أقرب الى «كومبارس» أو تشبه أولئك «الركاب» الذين يعتبرون انفسهم محظوظين اذا تأمن لاحدهم مقعد في اخر الحافلة او حتى على سلمها أو السطح.. لكن البساطي يقول من خلالها الكثير الكثير. الرواية ليست رواية شخصيات أو أشخاص.. انها رواية عن عالم معين لا يراه القارىء مباشرة بل يعرف عنه من خلال فعله في حياة اشخاص الرواية الذين تتشابه حياتهم الى حد بعيد لان خطوطها مرسومة بيد خفية هي يد السلطة او القوة المسيرة. والرواية -على طريقة اغنية فيروز والاخوين رحباني «تعا ولا تجي»- تقول الكثير الكثير من خلال ما «لا تقوله» او تكتفي بالاشارة اليه مداورة في كثير من «الخبث الفني» الناجح. وهل من قبيل الصدفة ان يكون والد بطل الرواية حارسا في سجن وأن يرثه ابنه فيصبح مثله حارسا في سجن ثم يطمح الى شيء من الارتقاء فيصبح حارسا في معتقل. ثم ان مجتمع هؤلاء الاشخاص الصغير منسوج بطريقة تجعل التفاعل محصورا بينهم وتجعل طموحهم يقف باستسلام عند حدود هذا المجتمع الصغير مع انهم يعرفون تماما ما يجري خارجه. كأن الكاتب يقول اننا نتحول او اننا تحولنا بالفعل الى مجتمعات من السجناء والمعتقلين وان الذين منا خارج القضبان هم سجناء ايضا.. فالامر يشبه مثلا الثوب وبطانته. والفرق بينهما ان احدهما من الخارج والآخر من الداخل لكنهما مرتبطان وكأنهما صفحة واحدة. أصدقاء البطل ومن يعاشر هو وافراد عائلته هم جميعا من هؤلاء الناس. يتصادقون ويختلفون ويتجاورون ويتزاوجون من داخل هذه الطبقة وأحلامهم وامالهم ومخاوفهم متطابقة او متشابهة. وما هم بعد ذلك فقافلة تسير وان شعر احد بأي غصات فهي مكتومة او مخنوقة. وردت رواية البساطي في 139 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن «دار الاداب في بيروت. في بداية الرواية يرسم محمد البساطي بعض اجواء هذا العالم المرتبط بالسجن. فيقول بلسان البطل الذي دخل السجن اعماق حياته ومشاعره وتصوراته (السجن غير بعيد عن البيت. اراه بسوره المتعرج عندما اكون فوق السطح اطعم الحمام وأراقب الحركة في ساحته الواسعة. المساجين بملابسهم الزرقاء هنا وهناك بحثا عن دفء الشمس ثلاثة او اربعة منهم بالملابس الحمراء.. محكوم عليهم بالاعدام.. يتحركون بين الاخرين اشبه برايات الخطر. يسحبون خلفهم مقاطف يجمعون بها ما تقذفه زوابع الهواء من اوراق اشجار وجرائد وكراسات مدارس). وينشأ الحارس ويكبر ويتقاعد ويبقى احيانا محافظا على دور لم يعد مطلوبا منه وعلى الثياب «الميري» التي تبقى له بعد التقاعد يتباهى بها ويسعى الى ألا تفارق صورته فيها عيون الناس. في المعتقل بشكل خاص يتحول الامر مع بعض مسؤولي المعتقل وضباطه وبفعل الخلاف بين السلطات ومعارضيها الى شيء من السادية والتلذذ بتعذيب الاخرين. يتحدث المؤلف عن واقع هو ما يكتبه المعتقلون في « الجريدة» التي سمحت لهم باصدارها سلطات السجن وكأنها وسيلة تنفيس وتلهية لهم عن القيام باعمال اخرى ثم استعملت ذريعة للبطش بهم تستند الى ما يشكل بعض اسس «سيكولوجية» التعذيب. يقول البطل لصديقه الحارس «ما يفضوها حكاية الجريدة دي ويستريحوا من الاذى. - فضوها يا سيدي. اسبوع والثاني سيادة العقيد امر ترجع. - ايه ده - اوه والله زي ما بقول لك. طلع انها سبوبة عشان يضربوهم من وقت للتاني. - واحنا محتاجين سبوبة» يجيبه زميله مستندا الى دورة تدريبية كأنها منهج «اكاديمي» في فنون التعذيب والضرب قال «تفرق يا سالم. الضرب من غير سبوبة ما لوش طعم. زي رفس الحمير .. يخلي المضروب عايز يخربش.. لما تيجي المعتقل يمكن يعطوك دورة تدريبية. انا اخذتها. اسبوع كان الاستاذ يقول لنا.. «قبل ما تضرب شوف سبب اي سبب. ولو عقب سيجارة والع».» اعطي البطل امرا بضرب احد المعتقلين وهو باحث واستاذ جامعي في الاقتصاد. يؤلمه الامر ثم يضطر الى الانتصار على تبكيت الضمير. وهكذا تجري الامور. الاستاذ المعتقل نفسه يدرك ازمة هذا الحارس ويدرك انه ضعيف فقير لا يستطيع التمرد والخروج عن النمط العام. كأن الامر تحول الى نمط مقبول كأنه قضاء الله. وهنا المفجع. الكاتب الذي ينقل الينا انواع الظلم يكشف لنا ايضا عن بعض ما يجري في ظلمات عالم السجن والمعتقل من ضرب وقتل واغتصاب وتجارة مخدرات. البطل يعوض عما يعيشه في هذا العالم بعالم صغير خاص به مع طيور الحمام على سطح بيته. يتعود الانسان على حفظ رأسه بأي ثمن ويتبنى رأي «جحا» القائل «حايد عن ظهري..بسيطة». يقول بشعرية واصفا عالمه الصغير الامن «احمل المقعد الهزاز الى السطح. استرخي فوقه. الوقت باكر. الافق بلون رمادي. وضباب خفيف يتصاعد. التلال على مرمى البصر. اتعجب من خضرتها الزاهية تحوطها كثبان الرمال... يحط الحمام على كتفي وظهر المقعد ويتجمع حول يدي الممتلئتين بالحب...» ويروي لنا كيف ان «الريس» وعد مرة بألا يبقى معتقل في البلد. ويصف لنا كيف انهار قسم من سور ترابي لاحد المعتقلات بعد ان ضربته جرافة خلال تحركها. «بعدها بلغنا ان السور هدم باكمله واعيد بناؤه بالخرسانة.» ويتحدث برمزية وسخرية مرة عما يشبه نوعا غريبا من الادمان او الترابط بين حياة الحراس والمعتقلين. خلا احد المعتقلات مرة من نزلائه فساد القلق والارق والانقباض حياة حراسه. ولما جاءهم بعد مدة نزيل واحد فحسب اكرموه وتجمعوا لاستقباله الى درجة زرعت رعبا في نفسه. وتسير الامور او كما تقول اغنية فرنسية «وتستمر الحياة».